في الهدف
أبوبكرعابدين
د. حمدوك وكلمة السر في حكم السودانيين بنجاح
رسالة مهمة لقائدنا دكتور حمدوك ورفاقه الأماجد ، وهي من عبر ودروس تأريخنا المجيد ، منقولة بتصرف من حكايات ( كانتر بري السودانية) لمحررها البريطاني ( دونالد هولي) سطر فيها مذكرات البريطانيين الذين تولوا الإدارة في السودان ، وبالتأكيد فيها عبر ودروس مهمة أردت إستعادة جزء منها أرى إنه يمكن أن يسهم في إدارة الدولة بنجاح.
* يقول رجل حكيم خبر مزاج شعبنا : ( مجتمعنا لايقبل الشفافية والوضوح ويميل إلى الإطراء والمديح ! وتأريخنا كتب ليوافق مزاج القادة التأريخيين بحكم الإنتماء الأعمى للطائفية والعشائرية والقبلية وهي أمراض أقعدتنا طويلا والأمل كبير في أن نتعافى منها بقوة العقل وإصرار جيلنا الجديد جيل ثورة ديسمبر المجيد).
* قصة اليوم عن أعظم مفتش عمل بجد وإخلاص في مدينة أم درمان فكان أنموزجا يحتذى وذكراه خالدة باقية لجليل أعماله رغم إنه كان موفدا من قبل حكم إستعماري .
* إنه برامبل بيه مفتش أم درمان الشهير.
* برامبل بك بدأ حياته العملية بالبحرية الملكية البريطانية ووصل فيها إلى رتبة ( رائد) ، جاء السودان لأول مرة عن طريق الجيش المصري ( ولذا ترى إسمه مرتبط بكلمة بيه وبك) وبدأ خدمته في جنوب السودان منطقة النوير .
* نقل إلى العمل كمفتش لمدينة أم درمان حتى صار ملكها غير المتوج بواسطة سكانها الوطنيين ، ولكن كيف ذلك ؟ فهذا ما سنعرفه عبر السطور القادمات.
* حكم برمبل بك العاصمة الوطنية المترامية الأطراف بيد من حديد ولأجل ذلك كان سكانها يحبونه ويقدرونه لأنهم كانوا على يقين إنه بالرغم من القناع المتشدد والذي كان يبدو قاسيا أحيانا في تطبيق القانون ، إلا إنه وزوجته التي كانت ترافقه غالبا قد نذرا نفسيهما دون حدود لتحسين أحوال المواطنين المعيشية والصحية والمهنية والأمنية بجد وإجتهاد لا يعرف الكلل ولا الملل .
* إهتم بالحرف المحلية والتي كانت مهنة السواد الأعظم حيث لم يكن التعليم منتشرا ، وبالفعل نجح في تطوير كثير من المهن وعلى رأسها تطوير مهنة أعمال الفضة والجلود كصناعة يدوية ونقلها نقلة نوعية ونظم السوق وجعل لكل مهنة وصنعة مكان معلوم وضوابط مشددة لترقيتها ، وماكان يمكن تطويرها لو تركها للأهالي وجهدهم المحلي وتلك جعلته يرتفع في نظر الأهالي عندما أحسوا بقربه منهم يراعي مصالحهم.
* كانت مدينة أم درمان مقسمة إلى أربعة أرباع بالإضافة إلى السوق ، وكان المفتش برامبل يبدأ عمله يوميا عند السادسة صباحا تماما دون تأخير( مواعيد إنجليز) كما نقول وتحتشد أمام منزله الكائن جنوب ( بيت الخليفة عبدالله التعايشي ) مباشرة مجموعة من رجال البوليس بزيهم الأبيض الناصع وبعض الموظفين السودانيين الذين يركبون الخيول كالمأمور ومدير البوليس بالإضافة إلى شيوخ الأقسام الأربعة أو (الحارات الأربعة) بالتقسيم الإداري الذي وضعه للمدينة والذين يركبون الحمير ، وطبعا كان وجودهم وإنتظامهم قبل الساعة السادسة صباحا وعندما تعلن الساعة السادسة تماما يخرج المفتش برامبل بك ممتطيا صهوة جواده ومرتديا خوذة( ولزلي) والتي وضع عليها شعار مديرية الخرطوم عموم وهي ( رأس فيل من الفضة اللامعة على أرضية حمراء) مرتديا جاكتة من قماش الجبردين مع أشرطة الرتبة على الكمين ،والحذاء الميداني والمهماز ، وهذا هو الزي الرسمي المخصص لجولة المدينة اليومي.
* كان البرنامج هو تفقد حيا واحدا كل صباح ويكون في إستقبالهم شيخ ذلك الحي أوالقسم أوالحارة مع مساعدوه ، وكان الغرض من هذه الجولات هو التأكد من نظافة المدينة وعدم وجود قمامة أو بضائع مفروشة على الطرقات ويدخل المنازل بإختيار عينة عشوائية مفاجئة ويدخل حظيرة الأغنام للتأكد من نظافتها ، وكذا التقيد بلوائح المباني حيث كان يمنع( عجن وصنع زبالة المباني) دون إذن من المجلس مع ضوابط صنعها وموعد رفعها( تلييس الحوائط) ، كما كان المواطنون يغتنمون هذه الفرصة لتقديم عرائضهم وشكاويهم وكان يتم البت فيها على الفور تحقيقا للعدالة أو يوجه صاحبها إذا إستدعى الأمر الحضور إلى المجلس،وكان الله في عون شيخ الحي الذي يكون حيه غير نظيفا او غير منظم.
* أما جولة السوق فكان لها يوم خاص ولكنه غير محدد وتتم الزيارة من غير ميعاد وفجأة لضبط المخالفين وخاصة في سوق الجزارة ( وهو ذات نفسه سوق الجزارة الآن مع فارق النظافة الآن وزمان) فقد كانت الأوامر أن يقوم كل جزار بوضع اللحم على التربيزة وتغطيته بفوطة بيضاء نظيفة ولا يكون مكشوفا يتلوث بالذباب ويسبب الأمراض للسكان ، ولكن الجزارين لم يلتزموا بذلك ويجعلونه مكشوفا ترغيبا للزبائن ولكن برامبل كان يصر على الضوابط ويشدد العقوبة على المخالفين، .
* في إحدى الزيارات المفاجئة والتي يدخل فيها من إتجاه غير متوقع لاحظ برامبل إن النساء العاملات في السوق وبمجرد رؤيتهم له يطلقن الزغاريد بصورة متواصلة وتكرر ذلك كثيرا ، فانتبه إلى إن وراء ذلك شيئا ما ..وعلى الفور نادى البتشاويش عوض الكريم بزيه الرسمي وسيفه المدلى على خاصرته بأن يلقي القبض على أولئك النسوة وأخذهم إلى المركز ، وعندما أحضرن أمامه سألهن عن سبب تلك الزغاريد ؟ فقالت إحداهن ياسعادة البيه إنت عارف عادات البلد ونحن عايزين نرحب بيك ونوريك نحن مبسوطين منك ومن حكمك العادل .. فقال لهن إن لم تقلن الحقيقة سأرمي بكم جميعا في السجن حتى تقلن الحقيقة وعلى الفور قالت إحداهن : في الحقيقة سعادتك نحن متفقين مع الجزارين بيدونا كل واحدة خمسة قروش وقالوا لينا أول ما نشوفكم جايين نزغرد علشان يغطوا اللحم بالفوط ، فضحك وأطلق سراهن وعرف مكر الجزارين وزاد ضوابط المراقبة وشدد العقوبة.
* قصص برامبل كثيرة ومثيرة وهو الذي نظم المدينة وأعاد تخطيطها وزرع شوارعها بالأشجار الظليلة وأنشاء الحدائق العامة ومنع إنتشار الحيوانات في شوارعها ووضع ضوابط وغرامات عالية لأي حيوانات سابلة في الشوارع ووضعها في حوش أطلق عليه حوش الحملة حتى كانت عبارة ( تاني تجي الحملة) عندما يشتد الأمر على اي شخص لأن الثمن كان غاليا.
* كانت كلمة السر عند برامبل في نجاح الحكم هي(الشدة مع العدل) ولذا نجح ايما نجاح.
* رسالتنا لحكامنا اليوم هو إن كلمة السر( الشدة والإنضباطمع العدل ) هي سارية اليوم ويمكنها أن تخرجنا من النفق المظلم فالشدة في تطبيق القانون تعطي السلطة والسلطان الهيبة والقوة والإنضباط يحقق النجاح لأن التراخي يهدر الزمن والقدرات والعالم من حولنا تطور وتقدم في الإنضباط في العمل وعدم التهاون مطلقا ، والأخيرة المهمة هي العدالة والتي تدخل الإطمئنان لنفوس الشعب فيتمسكون بالحاكم العادل ويدعمونه ويساندونه ،
* أتمنى أن تكون رسالتي في قالبها التأريخي قد وصلت لإخوتنا في رأس دولتنا وهم يتحملون المسؤلية العظيمة على عاتقهم.