عينيك يا أعز الناس ود اليمني .. أنموذج الفنان الملهم .. ومثال الموسيقى التاريخية
223
مشاركة المقال
كتب / أيمن عبد الله صباح الخير.
عينيك فيها علم الطب تظل الذاكرة الغنائية السودانية واحدة من أغني المستوعبات الإنسانية تاريخياً وموسيقياً، ويمتد هذا الغنى إلى فترة زمنية طويلة وضاربة في القدم،حتى العام2500ق.م، حيث أبدعت مروة مروي في إبتداع التغني بالسلم الخماسي الذي صار بعد ذلك تخصيصاً لحنياً يميز السودانيين عن بقية العالم في جوانب منه، وذلك باعتبار أن بعض الشعوب الشرق آسيوية تتغني هي ايضاً بذات السلم الموسيقي. والمنطقة الواقعة شمال ومنتصف السودان حيث قامت مروي الدولة إمتازت هي ايضاً دون غيرها بنمط موسيقي غنائي مختلف وخصوص، خصه الله بها دون سائر البلدان والعالمين، وهو ما يعرف بإيقاع “الدليب” والذي حتى في إختصاصه الجغرافي ما أكتفى بل صار معتنق غنائي لأثنية سودانية واحدة ومعتقد غنائي تقدسه وتعتنقه قبيلة ” الشوايقة” دون غيرها من الإثنيات السودانية. وبرغم أن لقبيلة الشايقية لهجتها ولكنتها المعقدة نسبياً من حيث النطق في نطقها للكلمات لكن غناء المنطقة الذي إمتاز بحنيته وشاعريته صار ملامحاً تراثياً عظيماً في كتيب التراث والموسيقى الافروعربية والسودانية على وجه الخصوص، وصار مصدر طرب وتعبير لغالب اهل السودان. ونمو فنتلك المنطقة اظهر العديد من المغنين والفنانيين الذين ارتبطوا بهذا النمط الغنائي واصبحوا من رموزه السودانية.
ويعتبر الفنان السوداني عثمان اليمني واحد من اساطين غناء ديار الشايقية ورمز من رموز الطمبور وغنائه الكبار، واحد مغني إياع الدليب العظام، وود اليمني الذي اختطفته يد المنون الإثنين الماضي كان في حياته مصدر الهام وحب لكثير من السودانيين وابناء منطقته على وجه التحديد، والباحث في غناء الطمبور يجد ان عثمان اليمني هو بمثابة الاب الروحي ال>ي استلم مهمة الحفاظ على الإرث بعد رحيل كبير ا لطمبور ” النعام آدم” وانه يمثل واحد من مغني الجيل الثاني الذي تعامل مع وسائل الإعلام السودانية ونجح في مد ونشر الاغنية والتغني بها عبر الشاشات والفضائيات خلال تسعينيات القرن الماضي. وتقول سيرته أنه .. عثمان عبد الرحمن علي حسين أحمد مرعي ، والده من أصل يمني ، دخل السودان عبر الحدود الإثيوبية في أواخر القرن التاسع عشر من أجل حفظ القرآن ، وكان ذلك في شبابه ، فتجول في”السودان كثيراً إلى أن استقر به المقام في قرية “القرير ” وهي قرية تتبع لريفي مدينة مروي ،وبعد سنوات عدة من مجيئه من اليمن التحق بخلوة الشيخ (عبد الله)،ومكث فيها إلى أن حفظ القرآن وعَلَّمَه ، وبلغ في تلك الخلوة مرتبة الوكيل ، ثم انتقل إلى خلوة (الضيف) بحي الشاطئ لبعض الوقت ، صاهر الملك “ود فور” ملك منطقة حزيمه وهو من ملوك (حَنِّك) وقام بأخذه إلى خلوة حزيمة شيخاً عليها ، ومن هذه المصاهرة جاء عثمان اليمني وإخوانه .
ولد “وداليمني” في العام 1939 ودرس عند والده بخلوة حزيمه وبمدرسة جقلاب الصغرى بالقرير، ولم يزد على ذلك. في عام 1957م التحق بالقوات المسلحة إلى أن ترك الخدمة في العام 1960م. عمل ترزياً بمدينة بشندي، ثم إنتقل إلى عطبرة ثم انتقل للعاصمة حيث عمل بسوق أم درمان، وفيها تعلم عزف الطنبور بمصاحبته لـ “سيد احمد صديق وعبد الله حسن الجدي وحسن حمد ود كليل” وهم من أبناء القرير، وبدأ ود اليمني يترنم ببعض الأغنيات القديمة ، وذات مساء وفي جلسة غنائيه إقترح عليه “حسن حمد” أن يذهب إلى الإذاعة وأصَرَّ على ذلك ، وفعلاً ذهب وكان ذلك في أواخر 1962م ، فتغنى وأجيز صوته فوراً بأغنية “الله الليل ياألله” التراثية المشهورة.ومن ثم التقي بالراحل حسن الدابي في “دابو جاهل صغير سن. . ويا حسن ده بلودو وين” وغيرهما ،وتغنى لابراهيم ابنعوف في “آسيا .. وماغلطان طريق الحب مشيتو” وأخريات. ومن ثم أتت بقية الروائع بلقائه مع الاساتذه : محمد العبيد صديق والراحل عبد الله كنه الذي غنى له مايقارب الـ100 أغنيه منها “جروح قلبى الأبت تبرا .. وشادياته” ومن بعد كان عبد المنعم أبو نيران وفؤاد عبد الرحيم والشاعر سيد أحمد الدوش وإسماعيل حسن وسيد أحمد الحردلو وكدكى والسر عثمان الطيب وأحمد النضيف” وعددٍ من الشعراء،حتي جاءت مرحلة الإنقاذ والتي تُعتبر المرحلة الاكثر نضاراً وقوميةً وأذدهار في مسيرته التي قاربت النصف قرن مخرجاً لنا أغانٍ روائعٍ وسيرةٍ قلّ أن يجود الزمان بمثلها.
• عينيك علمتني احب وبمثلما إمتاز ود اليمني بالتعامل مع كبار شعراء الشوايقة،إمتاز ايضاً بعذفه البارع على آلة الطمبور، وقدرته الأدائية العالية،ونبراته الصوتية الرخيمة، وملكاته التطريبية الراقية.واستطاع أن يخلد في الوجدان الغناي السوداني عديد الاغنيات بل تعداها ليمثل في فترة ثمانينيات القرن الماضي قمة منتهى تعبير العشاق وهو يتغنى برائعته (عينيك يا أعز الناس) والتي اصبحت خطاباً يخطته المحبون لحبيباتهم ويكتبون مقاطعها على المناديل المعطرة بين يدي (البنيات)، فاشتهر ود اليمين ايما غشتهار وصار محبوباً في الجيل الجديد من الشباب آن ذاك. ولكن كما هو حال الجسد الإنساني الفاني، تغلغل مرض السكر بين جنبات المغنى الطروب، وتحول مع الايام إلى فشل كلوي، ألزمه سرير المرض فاتعب صوته واقعده عن الغناء،فسافر مستشفياً إلى كثير من العواصم العربية،لكن المقام استقر به في الخرطوم،فعاند العمر والىلم وكان يترنم حتى آخر لحظاته بكلماته، وهو يؤرخ لصبره الذي ابانته المحنة أكثر من شلوحه الوسيمة، فاستقبلته مستشفى الشرطة “ببري”، قبل ان تنمحه التوقيع الاخير، وآخر شهادة على ظهر البسيطة، لتودعه جماهير السودانيين التي لطالما احبته منتصف ليلة الإثنين 14 ابريل، وهي تلقى على محبوبها وملهم عواطفها ىخر النظرات، وتشيعه في موكب مودع حزين غلى مثواه الاخير بمقابر الصحافة حيث وري الثرى. وستظل الذاكرة السودانية تحفظ له جميل غنائه، وسيذكره الوجدان السوداني المحب كلمات تفتقت مياسم حب أحد شبابه او شاباته بالحب الطاهر العفيف، وسيظل عثمان اليمني ما بقي العشق والحب والطرب في الوجدان الإنساني.