صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

نميري شلبي مات؟!

1٬015

صَابِنّها

محمد عبد الماجد

نميري شلبي مات؟!

‌لماذا أثقل علينا هذا الصباح بكل هذا الوجع؟! ليس في قريحتنا صَبْرٌ على هذا الحُزن، لقد نفد رصيدنا من الصبر!!
‌نميري شلبي مات؟! هكذا ظللت أردِّد هذه الجملة في نفسي وأنا في ذهولٍ، أكرِّرها حتى استوعبها، أجربها رفعاً ونصباً وجراً وأنا لا أفهمها، كأنني أردِّد جملة أعجمية.. صدى الجملة يعود لي مفزعاً، الأعزاء عندما يرحلون يخلقون في النفس مثل هذا الذهول.. نرفض أن نصدِّق رحيلهم ونحن ندرك أنّه حقيقة، نتغابى العرفة في الموت.
‌عندما يرحل من الدفعة أو الأسرة أو المجموعة أو الزملاء، الأكثر حيويةً ونشاطاً وحياةً وأملاً.. يخلق فينا هذا الذهول!!
‌نحن في حالة (خلعة)، عدت إلى صور نميري أغالط فيها نفسي، أسأل الله ألا يكون هو، وأن يكون الاسم اسماً لشخص آخر.
‌لقد كان نميري شلبي يتدفّـق حُبّاً، كان ظليلاً، يشملك ظله أينما كنت.
‌ندرك حقيقة الموت، ولكن مع ذلك نُصاب بمثل هذه (الجقلبة).. ولا نقول في النهاية إلّا ما يرضي الله.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
‌نميري شلبي مات؟.. أجلس في غرفة منعزلاً، أشعر بعزلةٍ تامةٍ، أواجه صدمة الخبر وحدي، وأعافر في مغالبة الحُزن حتى أبدو ثابتاً، أشهد أنّ هذا الباب، وذاك الشُّبّاك، وتلك الجدران وأنا في تلك الغرفة لو عرفوا عظم من رحل لتصدّعوا، أشهد أنّ هذا السقف لو عرف قيمة من غادرنا في هذا الصباح لخرّ على الأرض.
‌دائماً أنا أقول إنِّي أخاف من الموت، ليس خوفاً منه على نفسي، ولكن خوفي من الموت في اختياره للأعزاء والأخيار.. أخاف دائماً أن أفقد أمثال نميري شلبي.. لذلك فوبيا الموت عندي لها صليل!!
‌لولا إنّنا نعزي أنفسنا ونسلاها بأنّا من اللاحقين، وإنا على الدرب سائرون، لما استطعنا صبراً، أعلن اليوم إنِّي لم أستطع صبراً وأنا اقرأ خبراً عن رحيل الحبيب والأخ الذي لم تلده أمي النميري عبد الرحمن شلبي، أو (نميري شلبي) كما تعرفون جميعاً.. هذا الإنسان الذي كان بستاناً من الصفاء والنقاء والخير.
‌هل سوف أكتب عن رحيل نميري؟، هذا أمرٌ لن أطيقه، لا أريد أن أقول لا أصدِّقه، لكني ما تخيّلت أن يأتي يومٌ وأكتب عن وفاة نميري شلبي، ما أصعب هذا الموقف.. لا أستطيع والله أن أوصف قدر المَحَبّة والمَعَزّة التي كُنّا نحملها لنميري شلبي.. مَحَبّتنا له تعجز الكلمات عن وصفها والحسبة عن تقديرها، مِن الناس مَن تحمل لهم مَحَبّة، ربما هُم أنفسهم لا يعلمون بها، أو لا يعرفون قدرها.
‌صلاح أحمد إبراهيم في (نحن والردى) يُجابه الموت بهذا القول:
في غدٍ يعرف عنّا القادمون
أيَّ حُبٍ حَمَلْناه لَهُمْ
في غدٍ يحسبُ منهم حاسبون
كم أيادٍ أُسلفت منا لهم
في غدٍ يحكون عن أنّاتنا
وعن الآلام في أبياتنا
وعن الجُرحِ الذي غنّى لهم
كل جُرحٍ في حنايانا يهون
حين يغدو رايةً تبدو لهمْ
جُرحُنا دامٍ، ونحن الصابرون
حزننا داوٍ ونحن الصامتون
فابطشي ما شئت فينا يا منون
كم فتىً في مكةٍ يشبه حمزة؟
‌كم كُنّا نعزّ هذا الشخص ونجلّه ونحترمه، وأنا هنا أكتب بلسان شركة دار البلد التي أصدرت الصحيفة الاجتماعية (قلب الشارع) وصحيفة التسلية الساخرة (نبض الكاريكاتير) والصحيفة السياسية (الشارع السياسي) والصحيفة الرياضية (الإستاد) وصحيفة الأطفال (المناهل)، تلك الدار التي كان يملكها ويرأس مجلس إدارتها الأستاذ الراحل محمد محمد أحمد كرار، وكانت تملك مطبعة ودار نشر للكتب ومكتبة ضخمة.. في هذه الدار بدأنا مسيرتنا الصّحفيّة، سكنّا فيها وكنا ثلة من الصّحفيين نعمل في مكتب واحد، ونسكن في غرفة واحدة، ونرتع في كل هذه الصُّحف في وجود قامات صحفيّة تعلّمنا منهم الكثير، بدايةً من كرار المحلل السياسي القدير، مروراً بالكاريكاتيرست العالمي عز الدين عثمان، والإخوة الأفاضل منعم حمزة وعاطف ود الحاج وبدر الدين وعلي الدويد ومجدي حسين وعبد الإله الصديق وحسن شقاق.. من هؤلاء نهلنا الضحكة من منبعها.. تعلّمنا من أدب الراحل القاص والأديب كمال محمد الحسن (كمال خشم الموس)، صاحب دكانة (نبض الحروف) زاويته الشهيرة التي يكتب تحتها.. تعلّمنا في دار البلد من موسى حسب الرسول وسوزان عبد الرحمن شلبي شقيقة نميري الكبرى، الصّحفيّة التي جعلت نون النسوة في الصّحافة السُّودانيّة تتفوّق على الواو الضكر.
‌دار البلد كانت مجمعاً لكل الصَْحفيين، فيها التقينا بنجوم الصّحافة السُّودانيّة عبد الحليم الفور وسليم عثمان وأحمد يوسف التاي وبخاري بشير وعبد الحميد عوض وعبد الله بشير وأبو عبيدة عبد الله وأسامة عوض الله وعبد الرازق الحارث، وفيصل الكلاكلة، وهم بعض أسماء من صحيفة سياسية كانت في الصَّدَارَة، وفي الرياضة التقينا بالأستاذ الرقم عوض أبشر وصلاح المليح وأمجد الرفاعي ومحمد عبد العزيز وعبد الله التمادي وعبد الرحمن حنين، كما التقينا في صحافة الثقافة والأدب والفنون بطلال مدثر وأنور عوض وعلي شمو وهيثم كابو وعلي الطاهر ومجاهد العجب، أمّا في الصّحافة السّاخرة والاجتماعية، فقد كان نجمها الأول في ذلك الحين هو نميري شلبي، الذي وصل لمرحلة نجومية لا أعتقد أنّ هنالك صحفيّاً سُودانيّاً وصل لها وهو في بدايات حياته الصّحفيّة، إلى جانب الراحل علي همشري ومعاوية الجاك وعثمان أبو شيبة ومنيرة الطاهر (ريرة) ومزمل مصطفى (ميزو) وعماد الماحي وأحمد كنوز ويوسف الجلال، وقبل هؤلاء كان صلاح حمادة وعصام حسن زكي والأستاذة الفاضلة أمل صلاح توفيق والمحامية والقاضية منى سوميت وأماني (قودوني إلى النور) وهالة محمد عمر والكثير من الأسماء الرائعة والبديعة.
‌دار البلد جمعتنا بأخيار الصحفيين في القسم الفني محمد شريف ومحمد عبد اللطيف والطاهر عبد النبي وخالد أحمد عبد الحفيظ وعمر نقة ونهلة والراحلة خالدة وتماضر وعواطف ورونق وسونا . ومن منا ينسى الجعلي ومحمد الروب وخالد تمبول واسامة الحسابات وهيثم كرار وأشقاء كرار الأفاضل والاخوة في الإعلان والأعمام في مكتبة دار البلد.
‌عذراً أنا في حالة تجعلني أسقط الكثير من الأسماء ليس سهواً، وإنما حزناً، فالمعذرة لكل الأفاضل.
‌دار البلد كانت تمثل عندنا (جامعة) في الصّحافة السُّودانيّة، فيها اتعلّمنا وعملنا وسكنّا.. لا أريد أن أتحدّث عن دور هذه الدار العظيمة علينا، واكتفي بهذه المُقدِّمة التي كان لا بُـدّ منها ونحن نتحدّث عن النميري عبد الرحمن شلبي.
‌نميري شلبي كان أستاذنا وأخونا الكبير في هذه الدار، حتى لأسماء أكبر منه سناً، وكان هو (حاج نظرية)، نشكي له مشاكلنا ويُبدِّد عنا عقباتنا ويدلنا إلى الخير والحب، كنا نجده أمامنا في كل شئٍ، كفى أن أقول لكم إنِّي عندما كانت طالباً في الجامعة، عندما أهج وأقرر أثناء الدراسة وإن كنا في فترة امتحانات العودة إلى شندي التي لا أستطيع أن انقطع عنها أسبوعاً، في ذلك الحين، كنت آخذ حق التذكرة ذهاباً من نميري شلبي، وكان نميري لا يبخل من حق تذكرة الإياب حتى وأنا مسافر إلى أهلي وبيتي، هكذا كان نميري شلبي.
‌نميري كان يدفع للمجموعة كلها حق المواصلات وحق الفطور وتذاكر الدخول للإستاد من جيبه الخاص، كان لا يبخل على أحدٍ، نصرف من جيبه أكثر مما نصرفه من صراف الصُّحف التي نعمل فيها.
‌وكما إنّني لا أستطيع صبراً في هذا الفقد، لا أستطيع كذلك أن أصف لكم هذا الإنسان الذي كان كنزاً من الإنسانية، كنزاً لا ينضب.
‌لقد تعلّمنا من نميري شلبي أن نكتب الجُملة المُفيدة في الصّحافة والكلمة السّاخرة، وقبل ذلك تعلّمنا من إنسانيته التي لم يكن يحدها حدودٌ.
‌أذكره الآن وهو من أوائل الصَّحفيين الذين امتطوا العربة وهو في بدايات حياته الصَّحفية ولا غرابة في ذلك، فقد كان نميري شلبي هو نجم الصّحافة السُّودانيّة الأول، لا أقول السَّاخرة، ولكن أقول الصّحافة بشكل عام، وقد كرّمه في أحد الأعوام مجلس الصّحافة والمطبوعات باعتباره الصَّحفي الأكثر تأثيراً ونجوميةً، في وجود صحفيين كبار أمثال إدريس حسن وسيد أحمد خليفة وكرار وحسين خوجلي وأحمد البلال الطيب وعثمان ميرغني وعبد اللطيف البوني وميرغني أبو شنب وطلحة الشفيع وأحمد محمد الحسن وصلاح سعيد، وقد حقّق نميري ذلك في وقتٍ كانت تطبع فيه صحيفة “نبض الكاريكاتير” أكثر من مائة ألف نسخة ويُباع راجعها في الأسواق ويُحجز من قبل المُوزِّعين، كان ذلك النجاح يرجع الفضل فيه إلى (حاج نظرية) الشخصية النمطية التي كان ينتظرها طلاب الجامعات، ويتحدّث بلسانها ستات البيوت في ونساتهن وقعداتهن.
‌أذكر نميري، بشعرٍ فيه شئٌ من الفوضى، وبنطال جينز، وقميص كاروهات وشنطة صغيرة سامسونايت، وساعة فضية، يدخل علينا في مكاتب الصحيفة فترتسم صورة النجم عندنا بهذه الهيئة، لقد كانت النجومية تجرّ إليه أذيلها.. يطلب نميري قهوته، فنشربها معه مَحَبّةً ومَودّةً ومشاركةً، وربما كان ذلك فضلاً منه ونحن لا نملك ثمنها.
‌نميري الصَّحفي أسّس في الصّّحافة السُّودانيّة أدب الأسرة السُّودانيّة، كان يكتب بالمقلوب لحبيبته رشا التي أصبحت من بعد ذلك زوجته بمصطلح رمزي، وكلمات لم نكن نجدها إلّا في أدب ألف ليلة وليلة وشعر قيس بن الملوح، كنا نتلصص لكتابته لها قبل أن تصدر الصحيفة وهو بين فناجين القهوة ودخان السجائر يكاد أن تختفي هيئته.
‌أدب الأسرة الذي أسّسه نميري في الصّّحافة السُّودانيّة يظهر في كتاباته لأخواته الست اللائي كان يفتخر بهن ويعزهن كثيراً، لا أعرف كيف يكون وضعهن الآن، اللهم ثبِّت قلوبهن.. وكان نميري يكتب كذلك عن والده حتى بعد رحيله في صفحته الخاصّة، وعن والدته التي لم تغب عنه وهو في الإمارات، ثم كتب نميري عن أشقائه الذين لم يقلوا براً لوالدهم عنه، فكل واحد منهم أطلق على ابنه البكر اسم (عبد الرحمن) والدهم الموسوعة.
‌نميري بعد ذلك، كتب عن أبنائه عبد الرحمن وليان وشريف، لقد كان يغمرهم بمحَبّة كنا نشعر من فيضها أنه تشملنا معهم.
‌نميري شلبي وصل في الكتابة إلى مرحلة لا أعتقد أنّ هناك صحفيّاً وصل إليها، فقد كانت نجومية نميري شلبي بسخريته الفريدة محط إعجاب الجميع.. لذلك اتّجه نميري شلبي إلى مجال (التصوير)، ربما فعل ذلك لأنّ نميري وصل في الكتابة إلى سقفها، لذلك اتّجه إلى مجال التصوير، كما إنّني أشعر أنّ عشق نميري للمريخ جعله يختار هذا المجال ليكون قريباً من عشقه المريخ ومن اللاعبين وهو يُـرافقهم في المباريات والتمارين والرحلات الداخلية والخارجية، وهذا أمرٌ لم يكن يُوفّر وقتها إلّا للمصور، لذلك اتّجه نميري إلى التصوير حتى لا يبعده عن لاعبي المريخ غير (اللاين).
‌لهذا أرجو من جميع قروبات مريخ (الصفوة) أن يختموا القرآن الكريم في أول جمعة يغيب فيها عنا نميري.
‌أتمنى أن تتّجه القروبات نحو هذا الخير، وأن يكون هناك تنسيقٌ في كل قروب ليقرأ أيِّ عضو في القروب سورة أو جزءاً أو ما تيسّر لروح المرحوم نميري شلبي، على أن نفعل ذلك لكل الذين يرحلون عن هذه الحياة وهم بتلك السيرة العطرة.
‌ولكل قارئ لهذا العمود أسأله قراءة الفاتحة لروح نميري شلبي والدعاء له بالرحمة والمغفرة والثبات والصبر لأسرتيه الكبيرة والصغيرة، أمه وزوجته، إخوانه وأخواته وصغاره عبد الرحمن وليان وشريف.
‌نميري شلبي قبل 24 ساعة من رحيله، كتب بحروف الوجع عن رحيل عادل فرج الله، وقد بدأ نميري معه من الجامعة ومن فرفة تيراب والهيلاهوب وكان له دورٌ كبيرٌ في ظهور تلك الفرق التي أشاعت الفرح والبهجة والضحك.
‌اللهم أرحمه وأغفر له وأسكنه مع النبيين والصديقين والشهداء.
‌بيننا موعدٌ للكتابة عن المذيع أحمد يوسف عربي، وعن الكوميديان عادل فرج الله.
‌اللهم أرحمهم جميعاً.
‌….
متاريس
‌لا حول ولا قوة إلّا بالله.
‌..
‌ترس أخير: لا ترس اليوم من حُزننا على النميري عبد الرحمن شلبي.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد