إسبوعان في مدينتي بربر وعطبرة (٢)
في ضيافة وكرم العم عوض سند بقرية (الحافاب)..!!
أبوعاقله أماسا
* أول مرة أزور فيها ولاية نهر النيل كانت ضمن بعثة رياضية في العام ١٩٩٥، رفقة فريق العباسية أحد أعتى فرق دوري الخرطوم وقتها، عندما كان ينافس القمة ويتفوق عليها بالأداء الأجمل لدرجة أن أطلقوا عليها (فاكهة الدوري).. وكانت من الممثلين للخرطوم في دوري السودان وللسودان في البطولات الخارجية أيضاً، ووصلت في ذلك الموسم مرحلة كان يفصلها من الدوري الممتاز هدف واحد فقط لو أحرزته لكانت ضمن العشرة المؤسسين للدوري العام موسم ١٩٩٦، ولكن الحظ عاند هجوم الفريق عندما خسر أكثر من لاعب أساسي بعد وصول الفريق لمدني بسبب الملاريا، وخسر جهود صانع ألعابه الأميز أداءً وسلوكاً ضياء الدين إبراهيم لاعب الهلال لاحقاً بسبب إمتحاناته النهائية بجامعة النيلين.
* المهم كنت مرافقاً لذلك الفريق الأنيق والمدجج بالنجوم للمشاركة في مجموعة الدامر في دوري السودان، والتي كانت تضم بجانبه فريق السهم الدامر وبدر أم ضواً بان والأشبال الدويم، وأذكر أن البعثة حلت بمنزل حكومي بحي الشعديناب وسط حفاوة وكرم لم نشهد مثله مثيلاً، وقضينا فيها ما يقارب العشرين يوماً زرت خلالها قرية الحديبة جنوب الدامر، ثم شهدنا مباراة صعود الجلاء كنور للأولى وشاركنا في إحتفالات جماهيرها بدار النادي بقرية كنور الهادئة الوادعة، وكان سبب تلك المشاركة أن علاقات مميزة ربطت الناديين، وأواصر إرتباطات وصداقات بين العباسية وكنور شكل فيها عمنا المحترم والحبيب حاج الأمين مضوي رئيس نادي العباسية دوراً بارزاً، فهو من تلك القرية وكان من التجار الكبار في السوق العربي قبل ترحيله إلى السوق المحلي.
* تحركنا بسيارة (دينا) قاصدين الدامر في شهر أغسطس على ما أذكر، وكان شارع التحدي وقتها بالكاد قد وصل مقطعاً إلى شندي وفي الطريق تعاني السيارات كثيراً لعبور الخيران والوديان التي تقع بعد الجيلي شمالاً، وأعتاها على الإطلاق خور العوتيب الشهير، ولكننا وصلنا شندي بسلام، وكان علينا أن نقطع المسافة المتبقية على طريق ترابي لايقل وعورة عن طريقنا إلى الدلنج، أيام كنا نصل إليها في يومين بالقطار تارة إلى الأبيض أو الدبيبات ومنها باللواري إلى الدلنج، وكانت أكثر نقطة مرعبة في الطريق إلى الدامر تلك العقبة التي تنحدر من الجبال بعد قرى شمال شندي وجنوب الدامر، إذ يتعين على السائق أن يركز وبدون أخطاء في الصعود أو الهبوط.. وكنت أعتبرها أكثر طريق وعر ويحتوي على مغامرات قبل أن أرى عقبة بورتسودان..
* والي نهر النيل كان الراحل واللواء وقتها عبدالرحمن سرالختم، والي الجزيرة لاحقاً وهو معروف بشخصيته الرياضية وعلاقته بنادي الهلال كأحد أقطابه البارزين، حتى أن مدير مكتبه في الدامر كان زميلنا وصديقنا عاطف الجمصي وربما كانت هذه واحدة من الأسباب التي حملت البعثة على أكف الراحة حتى تصدرت العباسية مجموعتها وانضمت لمجموعة مدني لاحقاً.
* تلك الزيارة الأولى ماتزال تسيطر على الخاطر والذكريات وقد تركت الكثير من الإنطباعات الإيجابية قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت، لذلك جاءت الزيارات التالية على وقعها، وفي البال حميمية أصدقائي في قرى الولاية المتناثرة بعد أن تكررت الزيارات بعدها إلى قرى كلي والكتياب والجبلاب وبربر وشندي..!
* واحدة من الأسباب التي شجعتني على زيارة عطبرة وبربر والمكوث فيها لإسبوعين هو الأخ والجار العزيز راني عوض سند، أحد جيراني في إسكان الثورة، إفتقدته منذ اندلاع هذه الحرب اللعينة فقد كان ضمن الحرس الرئاسي وفي الخدمة ليلة إندلاع الحرب، ومن الذين استبسلوا في الدفاع عن سيادة الدولة ولم أعرف أنه كان من الناجين إلا بعد أكثر من عام على الحرب.
* راني عوض سند وشقيقه مخلص عوض غير أنهما جيراني الآن فقد إكتشفت أن لديهم علاقة بمنطقتنا أبوعشر، حيث نشأوا وترعرعوا هناك في حي السوق القديم ويعرفون معظم أهلها، وقد امتدت علاقتي بهما وشملها الإحترام والتقدير والمحبة، وبعد اندلاع الحرب إنشغلنا على الأخ رامي بالطبع وظللنا نستفسر ونسأل عنه كل ما وجدنا سبيلاً إلى ذلك حتى وجدت معلومة بأنه خرج من القيادة بعد فك الحصار وأكمل الإجراءات الرسمية وغادر أم درمان إلى مسقط رأسه بقرية (الحافاب) على بعد كيلومترات شمال بربر.
* قررت أن أفاجئه بزيارة في الحافاب، وعندما أخبرت الأخ الصديق أنس نصر الدين المدير الإداري لبعثة المريخ ورئيسها قرر هو الآخر أن نكون معاً في هذه الزيارة.
* انطلقنا إلى قرية الحافاب وكلنا أشواق وأمل لنلتقي بجارنا العزيز ونسمع منه.. كيف قضى عامين محاصراً في القيادة العامة، وبدأت أشحن قريحتي بالأسئلة والإستفسارات.. ماذا كنتم تأكلون.. وكيف كنتم تنامون؟ ومن أين تجلبون مياه الشرب؟… و و و.. ألخ..!
* كنا نسأل المارة عن القرية ونحن نعبر سلسلة من القرى التي لا تفصل عنها سوى مسافات غير محسوبة، ولاحظنا أن كل من سألناه كان يترك مافي يديه ويتوجه إلينا بكل طيب خاطر ليجيب على أسئلتنا واستفساراتنا.. حتى دخلنا القرية، ولحسن حظنا رأينا رجلاً في العقد السابع يقف على يمين الشارع وقررنا إستفساره عن منزل الأخ راني عوض ففوجئنا بأن الرجل نفسه عمنا عوض سند والد جارنا راني وشقيقه مخلص.. والمفاجأة الكبرى أن راني كان يتحدث معنا وكأنه مستلقي على العنقريب (الهبابي) في ضل الضحى، ولكنه كان في بورتسودان، وتجاوب معنا من قبيل الإستدراج وبحماس حتى نوصل بيت الأسرة ونقع في شراك والده الطيب، وعندما عرف والده أننا جيران إبنه بأم درمان جن جنونه وأبى إلا أن نوصل معه إلى الدار.. وهناك قضينا ساعة ونصف مع الكرم السوداني الأصيل وطيبة إنسان نهر النيل وأصالته قبل أن نعود إلى مدينة بربر..!!
* كان في بالي أكثر من شخص لأسجل لهم زيارات في منازلهم شخصيات ذات أثر طيب في نفسي، وبيننا من الود والإحترام ما يستحق الإهتمام.. من بينهم رموز رياضية لها مكانة في القلب، وأصدقاء أعزاء لنا معهم ذكريات في مجالات الحياة المختلفة، في ميادين كرة القدم والحراك الإجتماعي وفي الجامعات، وأولى تلك المحطات كانت قرية كنور القريبة من عطبرة ولكنها تتبع لمحلية بربر إدارياً… والحديث عن كنور يطول ويحلو ويتطلب حلقة كاملة.. لنتحدث عن الشخوص والأمكنة… فإلى الحلقة القادمة بإذن الله


