قبل عشرين يومًا سبقت السادس من أبريل المجيد قصد مجموعة من الشعراء والمهتمين بالآداب منزل الشاعر الكبير عبد الرحمن الحفيان صاحب ديواني (الليل والصمت/ والموال) لإقامة أمسية شعرية تكريمًا له في داره بواسطة بيت الشعر الخرطوم.
كان المحتفى به قد نصب سُرادقًا أمام منزله، ودعا أهله وجيرانه للترحيب بالشعراء الشباب في أمسية كان موعدها بعد صلاة المغرب مباشرة، غير أنها تأجلت بطلب من المُحتفى به حتى يصل أحد أقاربه الذين يعملون بالقوات المسلحة برتبة الفريق.
لم يكن انتظار ضيف الشرف قد لفت انتباه أحدٌ من الزائرين إذْ غالبية شعراء تلك الأمسية كانوا أكثر شهرةً، وغالبيتهم معروف في محيط الشعر في الوطن العربي وطبعت لهم دواوين خارج السودان رغم أعمارهم القصيرة.
جاء الفريق ضيف الشرف وبدأت الأمسية بقراءات شبابية ورؤى نقدية قدمها الباحثان في الأدب السوداني مجذوب عيدروس والناقد أبو عاقلة إدريس حول تجربة الشاعر المحتفى به.
ومربط أمرنا في هذه المساحة هو ضيف شرف الأمسية الذي لم نُلقِ له بالًا حينها، فكانت الصدفة بالعودة إلى أرشيف الصور الذي بيَّنَ أنه هو نفسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان.
ولم أكن على عِلمٍ أن هاتفي الذي ظل يلتق الصور في ذلك اليوم سيصطاد شخصًا سيجيء رئيسًا للبلاد بعد حين، وربما تكون أول صور تظهر للرجل بالزي المدني بعد توليه دفة الحكم.
كان الرجل في تلك الأمسية قد أبدى اندهاشه بروعة وإبداع الشعراء الشباب وهم يفوقون من سبقهم من الأجيال الماضية -بحسب قوله- ، متعجبًا من بروز مثل ذاك الإبداع في ظل الظروف القاسية والإهمال المتعمد للآداب والفنون والثقافة.
كان الرجل يعلم يقينًا من خلال مناقشاته الجانبية مع الشباب ومدير بيت الشعر الدكتور صديق عمر الصديق أن أولئك الشباب تتلبسهم روح الثورة والتوق للانعتاق والحرية.
لم يكن الرجل يعلم أن القدر يخبيء له بعد عشرين يومًا من هاتيك اللحظة موعدًا مع التاريخ ليكون على قمة هرم الدولة السودانية بعد توالي سقوط البشير وابن عوف.
ومن خلال استفسار بعض الشعراء الذين خاضوا نقاشات جانبية مع البرهان قالوا: إنه محب للشعر وعلى معرفة جيدة به، خاصة شعر عصر الحداثة الذي يخوض في مضماره قريبه الحفيان وأقرانه أمثال مصطفى سند ومحي الدين فارس وغيرهم.
كان محض الصدفة هو الذي جمعنا بهذه التحفة الفنية ونحن نقلب ألبوم الصور ليتجلى فيها البرهان بلباسه السوداني (العمة والجلابية والمركوب).
وأنا أكتب هذه المادة تذكرتُ محمود درويش وهو يستنجد على لسان أحد زعماء قبائل الهنود الحمر مخاطبًا الرجل الأبيض وهو يقول :
ألا تحفظون قليلًا من الشعرِ
كي توقفوا المذبحة
ألم تولدوا من نساء
ألم ترضعوا مثلنا حليب الحنين إلى الأمهات
ألم ترتدوا مثلنا أجنحنا
لتلتحقوا بالسنونو
فهل يتذكر البرهان قليلًا من الشعر في تلك الأمسية ليجعلنا نحلق بتفاؤلنا، ونحلم بالعبور إلى رحاب السلام والحرية والعدالة وتأسيس الدولة المدنية التي يتوق لها الشعب السوداني منذ ما بعد الاستقلال، وفي سبيلها حلقت أرواحٌ في رياض الفراديس.
يقول الزميل الصحفي معتصم الشعدينابي إنّ الشعب الذي أسقط البشير لم يمهل ابن عوف ولو قليلا من الوقت بالرغم من أنه تلا بيان تطلعات الشعب بسقوط البشير، فلحق ابن بالبشير، وتفاءل بالبرهان، لكنّ البرهان تناسى المعتصمين في القيادة وظل يخاطبهم من أبراج القصر بحسب الشعدينابي.
كلُّ هذه الأسئلة تتداعى فقط لأن البرهان كان في حضرة الشعر، فهل يعلم رئيس المجلس العسكري الانتقالي أنّ الآداب والفنون وحدها من تستطيع هزيمة الموت، فهل ستتحد الأضداد في المعنى ويكون الباطنُ الشفيفُ هو القصيدة؟
كل هذا قبل ساعات من انتهاء ال(٧٢) ساعة مدة تعليق التفاوض، والذي وفقًا لما حملته الأنباء سيعود يوم غد الأحد، فهل يعودون إلى الجماهير بأرواحٍ شاعرة تعطي قليلًا من الحياة لطوابير موتانا.