أبوعاقله أماسا
* بما أن الحديث عن تمييز الشريط النيلي يتمحور دائماً حول أن هنالك قبائل محددة في هذا الشريط تستأثر بالمناصب وأن هنالك تهميش متعمد، فنحن نتناول هذا التمييز من زاوية مختلفة تحاول أن تبعد المسألة من العقلية التآمرية وإعادتها إلى المسار الطبيعي والمنطقي، إذ أننا ذكرنا في المقالين السابقين أن الولايات الغربية تتفوق على الشريط النيلي بما فيها الجزيرة والشمالية ونهر النيل بالطبيعة والتنوع وكثير من الخيرات المهملة التي لم يستفد منها الإنسان المحلي لأسباب تعود لأسلوب الحياة هناك، وذكرنا أن سبعون بالمائة من حفظة القرآن الكريم ينتمون لولايات دارفور وكردفان، ومع ذلك لم ينعكس ذلك على سلوك المجتمعات في مناطقهم ولا في المشاكل القبلية وبعض الظواهر التي تتفرد بها تلك المناطق مثل النهب المسلح وسرقات البهائم والإصطفاف الحاد على الأساس القبلي والعنصري، رغم أن تلك القبائل ظاهرياً تدين بالدين الإسلامي وليس من بينها من يعتنق ديانات أخرى، ومع ذلك كانت الولايات الغربية وماتزال تعاني من تنافر غريب، حتى داخل القبيلة الواحدة تجد اللغة الإستعلائية ومن يريد أن يفرض أفضليته على الآخر، والأمثلة كثيرة نتجاوزها تحياشياً للدخول في جدل غير مفيد، ولكن الثابت من الأمر أن هذا التنافر كان ومايزال هو السبب الرئيس في أن تكون معظم مناطق الغرب خارج مظلة الخدمات، وفي نهر النيل والشمالية نجد على سبيل المثال مناطق المناصير التي تتمتع بالإستقرار التام من النواحي الأمنية ومع ذلك تعاني التهميش بصورة لا تخطر على بال ولا تنسجم مع المنطق، فضلاً عن مناطق كثيرة في ولايات الشمال تعاني أيضاً مما سمي بالتهميش، وهو في الأصل تقصير من الحكومات المركزية المتعاقبة تجاه كل ولايات السودان، حتى الجزيرة التي كانت تمثل عصب الإقتصاد يوجد داخلها قرى ومناطق وجيوب تعاني الإهمال ولا تتوافر فيها أبسط الخدمات، بل تنقطع معظمها عن المدن والقرى الكبيرة في موسم الأمطار، وأبناءها لا يجدون حظهم في التعليم كما ينبغي.
* على المستوى الإقتصادي، فإن الرأسمالية المتمركزة في غرب السودان ربما تفوق المتواجدة في الولايات الشمالية بالأضعاف، حتى على مستوى العاصمة الخرطوم نجد أن رجال المال والأعمال وكبار التجار المنتمين لولايات كردفان ودارفور أكثر من بقية المنتمين لكل ولايات السودان، وإذا أخذنا منها نماذج وعينات سنجد أن رجال الأعمال الذين ينتمون لمناطق الوسط والشمال تركوا بصمات إيجابية على مناطقهم وقراهم مسقط الرأس، في خدماتها المختلفة، ففيهم من أنشأ محطات المياه والمدارس والمراكز الصحية ورصف الطرق التي تربط قراهم بالمدن، عكس الطرف الآخر ومنهم من انقطعت صلاتهم بمسقط الرأس وبعد شيدوا قصورهم في أحياء الخرطوم الراقية وماعادت تربطهم بمناطقهم سوى الإنتماء من بعيد وبعض العلاقات المتكلفة.. ومعظمهم لا يساهم في المبادرات الأهلية للتنمية، ومعظم الأهالي في كردفان ودارفور ينتظرون الحكومات المركزية لتأسس لهم سبل الحياة الكريمة دون أية مبادرات منهم حتى على سبيل توفير الأمن والإستقرار، إذا اتفقنا أنه لا تنمية بدون أمن وروح تعايش..!
* ولايات كردفان ودارفور إذا اعتمدت على الثروات الحيوانية والمعدنية والزراعية ووفرت لها سبل النقل والترحيل والتصدير فسوف تكون عصب الإقتصاد الوطني بدون جدال، والدارفوريين المتعلمين يعرفون هذه الحقيقة أكثر من غيرهم، ولكن الكلمة هناك لبعض العطالى وقطاع الطرق ومن اعتادوا على ألا يبذلوا جهداً للكسب، ومن يتركوا الحلال ويركضوا نحو الحرام، لذلك تنتشر سرقات الماشية والنهب المسلح وبعض المشاكل التي تهدد حياة الإنسان وتجعل الأمن والإستقرار أماني وتطلعات مستحيلة.
* نقطة أخرى مهمة وهي أن تلك الولايات وفوق ماهو معروف فيها من ثروات، وما اشتهرت به من مشاكل وحروب وتصدير للموت وأساليبه للولايات الأخرى، مع كل ذلك تملك أكبر نسبة من حملة الدرجات العلمية وأساتذة الجامعات وطلابها، وبدلاً أن يتبنوا إتجاهات جديدة تخرج تلك الولايات من أحاجي الظلم والتهميش، ذهبوا في نفس الإتجاه وروجوا للعداءات القبلية، وبدلاً أن يحاولوا الدفع بمشروعات وحدة وتنمية تتجاوز المشكلات الإثنية الأزلية إنضموا للحركات المسلحة التي كانت وماتزال الداء العضال الذي تعاني منه دارفور وكردفان على حد سواء، ويكفي ما ورد في تقرير الأمم المتحدة وأنها أنفقت على مشاكل دارفور أحد عشر ملياراً من الدولارات منذ بدايتها في ٢٠٠٣،وهذا الرقم طبعاً لا يشمل ما ضخه القطريون وبعض الدول والمنظمات على أمل إحتواء أزمة دارفور فضلاً عما انفقته الحكومة المركزية لذات الغرض وما استحوذ عليه حميدتي وأعوانه من ثروات، قبل أن يكتشفوا مؤخرًا أن أزمة دارفور وكردفان في إنسانها وعقليته وليس في المال والسلطة، فهذه المبالغ لو خصصت لبقية ولايات السودان لتقدمت على الدول الأوربية من حيث الرفاهية.
* سأخصص الحلقة القادمة للحديث عن جنوب كردفان، وكيف أعاقت الحركة الشعبية مسيرة التطور الطبيعي للإنسان، وماهو الثمن الذي دفعه المواطن والمقابل الذي جناه من حرب طال بها الأمد..؟