أبوعاقله أماسا
* إستمعت لأكثر من سياسي يتناول العبارة أعلاها (الشريط النيلي) وبعض العبارات الفضفاضة التي يحشرها البعض ضمن كلام كثير للحديث عن إستئثار بعض المناطق بثروات البلاد وبالتنمية وإهتمام الحكومات، وأفضلية مناطق على أخرى فيما يدعم الحديث الكثير والمغالطات التي إعتدنا عليها في جدلية الهامش والمركز، وأرى أن هذه العبارة من العبارات المستفزة لأي سوداني ينتمي لهذا الوطن بصدق ووعي بدون مزايدات وتأويل لطبيعة الأشياء، إذ لايعقل أن نبني فرضية إستئثار البعض بثروات البلاد ومناصب سلطتها على النظريات القبلية الفجة دون ان نستصحب بعض الحقائق والثوابت الجغرافية والتأريخية ولا يعقل أن نتحدث عن (التهميش) كمصطلح سياسي دون أن نبحث ونتوصل إلى تعريف موحد يخرجه من حيز الجدل إلى أفق عملي ندرك به ما هو مطلوب من الحكومات حتى تستقيم الأمور، أول الحقائق أن ضفاف النيل كانت سابقة وحاضنة لكل الحضارات عبر التأريخ، ولم يرتبط الأمر بجعليين ولا شايقية، وقد كان كوش ومروي وكرمة وحتى آخر عهد الممالك المسيحية في علوة والمقرة على امتداد هذه الرقعة الجغرافية المقصودة بالشريط النيلي، وافتراض أن القبائل التي تقطن على النيل أخذت الأسبقية على غيرها قضية يثيرها بعض المتحذلقين لإثارة المزيد من الفتن ولو كان هنالك تميز فهو من صنع الإنسان وليست الحكومات المركزية وبعيداً عن اللغة السائدة بين بعض رواد مواقع التواصل الإجتماعي فهي دعوات فتنة، والسودان في هذه المرحلة لا تنقصه منها شيء بعد أن وصلنا الحضيض تماماً، والدليل على أن التميز في الجغرافيا وليست في الإثنيات أن كثير من أبناء الغرب والهامش الذين ولدوا في مدن الشمال، ووجدوا حظهم من التعليم والإستقرار برزوا في مجالات مختلفة وكان لهم حظ في كل المجالات التي طرقوها، بل وصل بعضهم إلى مستوى نجاحات مشرفة للوطن ككل والأهم أنهم كانوا الأقدر على الإنصهار في المجتمعات المتحضرة أكثر من غيره..!!
* نظرية الهامش والتهميش التي يمتطيها البعض للمزايدات السياسية والمكاسب اللحظية وإزكاء نيران العنصرية والعنصرية المضادة لو تعاملنا معها بعقل سنجد أنها تشمل مناطق واسعة جداً من هذا الشريط النيلي، وفيه مناطق لم تسمع بالتنمية ويخيل لك أن الحكومات لم تسمع بها.. وتنطبق عليها كلمة (الهامش) أكثر من غيرها، وبعض المناطق قياساً بمناطق كردفان غير مؤهلة لأن تكون سكنى لبني البشر من فرط قسوتها وافتقارها لأبسط مقومات الحياة، إنما النيل الذي جعل من مصر بصحاريها القاحلة وأحقافها ورمالها (هبة) وحضارة هو نفسه الذي منح الشمالية ونهر النيل والجزيرة الحياة في شريط ضيق جداً، لو قدر لأي إنسان أن يسكن خارجه لما استطاع، وكثيراً ما قارنت بين البيئة والطبيعة التي أنصفت مناطق كثيرة في السودان، حيث الأمطار والغطاء النباتي والمراعي وخيرات الدنيا، مع إختلاف كبير في طبيعة الإنسان في كل ولايات الغرب بلا استثناء..!!
* لا أريد الخوض في ذات المغالطات في سبيل أنني غير مقتنع بما يثار حول (الشريط النيلي) وقصة الهامش والتهميش، وأن هنالك ظلماً واقع على أبناء الغرب ومناطقه، ولكنني أدعو كل أصحاب هذا الإدعاءات إلى رحلة سياحية لنهر النيل والشمالية لنقارن في كل شيء.. لنأخذها من الخرطوم ونتجه شمالاً حتى حلفا القديمة، فمعظم الذين يتحدثون بذلك المنطق الفج يجهلون طبيعة الشمالية وما في ضفتي نهر النيل، وأراهن على أن جميع من كان يتحدث عن هذا الموضوع سيتخلى عنه بعد أن يقتنع بأن الله قد حبا ولايات كردفان ودارفور بطبيعة وخيرات وثروات نادرة، ولكن سبب تأخرها كان في الإنسان الذي جعل روح القبيلة يسود على روح الوطن، وصوت الجهل يغطي على العلم.. ويسود غير المتعلمين على المتعلمين كما هو مثبت في مشاهد كثيرة مرتبطة بالماضي والحاضر.. حتى في العقلية العامة.. هنالك فروق.. خاصة في استعداد الإنسان للعيش في مجتمعات متحضرة، حيث نجد إنسان الولايات الغربية الذي تكبله القبلية وقوالب الإدارات الأهلية في تلك الولايات يختلف كلياً عندما بنتقل للعيش في مجتمعات المدن، فيكون أكثر استعداداً لتقبل الآخر، والدليل على ذلك أن ذات القبائل المتناحرة في كردفان دارفور لا تقطن في المدن الكبيرة إلا متجاورة… ولدينا نماذج حية وأمثلة مما نكتب.. لذلك أقول أن إدعاء تميز الشريط النيلي ووضع الأمر في قالب إثني ضيق إنما يراد به الفتنة.. كما يكشف جهل المتحدثين بها لجغرافية السودان وتأريخه، وأكتب بلا تردد أنه إذا كان البعض يتحدث عن الإستقرار في هذه الرقعة الجغرافية (الشريط النيلي) فإن هنالك أسباب موضوعية تعود لعقلية الإنسان، فالإستقرار في نهر النيل والشمالية سببه الإنسان المتسامح، والإحتراب والإقتتال في كردفان ودارفور سببه الإنسان غير المتسامح.. ببساطة غير مخلة..!!
…. نعود ونواصل..