صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

الحُـزن الذي يَشـبه (أعِـد) في الإمــلاء

21

صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد

الحُـزن الذي يَشـبه (أعِـد) في الإمــلاء

هذه الحرب تقلقني ليس فقط بما تحدثه في المحيط العام، وما تفرضه علينا من خراب ودمار.
لقد دخلت هذه الحرب في عمق تفاصيلنا ـ طعم الدم والرصاص والبارود، أصبحنا نستذيقه في (لقمة) العيش.. كل شئ بطعم (الدم).
عيوننا كانت (عسلية)، أصبحت (دموية).. لوننا (الأسمر) فَقدَ سمرته بسبب برك الدماء.. لوننا أصبح (أحمر).
تعاطُف نجوم كرة القدم في العالم لا يسعدني ـ بل يحرجني، يشعرني بالأسف، فهم يشعرون بنا أكثر من بعض أبناء الوطن، الخراب والدمار عندهم مجرد (حالة) تتغير كل (24) ساعة.
يقلقني في هذه الحرب أن حزنها أصبح (خاصاً)، حتى عندما يحدث شئٌ (عامٌ)، تشعر أنه يخصك أنت وحدك ـ والخصوصية في الحزن، قاتلة.
كنا ندرس في جغرافية السودان عن أنّ السودان سلة غذاء العالم، وعن تصدير القطن طويل التيلة، وعن الصمغ العربي، الآن لا نصدِّر غير الحسرة والأسف الطويل.
أصبحنا لا ننتج غير الدموع والدماء، سلة غذاء العالم حل محلها حالة (أنقذوا السودان).
هل تشعرون بذلك؟ ـ أم التبلُّد عندكم جعلكم تشعرون بأنّ كل هذا ما فارق معاكم.
التعدية إلى الجانب الآخر للنهر يجب أن لا يكون على جسور الجثث والمواطنين العُـزّل والمدنيين الأبرياء.
واهمٌ من يظن أنّنا نموت فقط بالرصاص، لهذه الحرب أسلحة أخرى ورصاص آخر ـ يموت الناس في بلدي بالغبينة والحزن والإهمال واللا مبالاة ـ يموتون بالكوليرا وحمى الضنك والفقر والخروج عن الخدمة.
يموتون ذلاً، وهم في بلاد الغربة يفترشون أرصفة الانتظار.
يموتون بما يفعله فينا ساستنا الذين ليس لنا منهم غير التصريحات وبرقيات التعازي!
لذلك، المسافات لا تمنع الموت بسبب هذه الحرب، والغربة لا تبعدك عن ميدان القتال، رصاصها يدركك أينما كنت.
الرصاص في هذه الحرب يأخذ أشكالاً مختلفة، مرة ذخيرة حية، ومرة كوليرا، ومرة حمى الضنك، وما خُفي كان أسوأ.
الموت في هذه الحرب، إنك تموت في اللحظة ألف مرة، تارةً بالسقوط وتارةً بالدمار وتارةً بالخراب وتارةً برحيل عزيز.
الموت ألف مرة وأنت حي، أسوأ ألف مرة من الموت مرة واحدة.
أوجاعنا تُعرض يوماً بعد يومٍ، تتجاوز منسوب النيل عندما يصل لأعلى منسوب له.
كنا نترِّس فيضان النيل بالخيش والتراب، والنفير الذي يهزم سكون الليل، بماذا نترِّس أوجاعنا؟ ـ إنها تتّسع بصورة مخيفة، أوجاعنا غير قابلة للمسكِّنات.
غير قابلة للتروس.
شئ من القلق، يجعلك تفقد السيطرة على اتجاهاتك ـ أين تذهب هذا المساء؟ ماذا تأكل؟ ماذا تشرب؟
أمسياتنا شئٌ من الحزن.
نسير في اللا اتجاه نحو اللا شئ، من أجل ما لا أعرف.. الأشياء لم يعد لها الطعم.
النفاق صار في أنك تكون صادقاً كلما رفعت صوتك أعلى.
يحسبونها هكذا.
شئٌ من الغربة ينتاب شوارعي التي كنت أعرفها، وأسكن إليها.
شارع بيتنا أصبح يؤدي إلى بيت آخر لا أعرفه.
باب بيتنا فَقدَ القدرة على الانفتاح، أصبح مثل قلوبنا (مغلقاً).
وجدته منهكاً، متعباً، أغبش، أغبر في إحدى مستشفيات القاهرة، يحمل أوراقه بلا أمل.. قال لي إنه عايز يركِّب (دعامة) للقلب.. قلت له بعد حين، الموت أفضل لك من ذلك، فقد مقتنا (الدعم) حتى في (دعامات) القلب.
الدعامات أصبحت للموت وليس للحياة.
رمى ورقه وذهب ـ ظللت أنظر إليه حتى اختفى، كأنه اقتنع بكلامي.
كل الأشياء طعمها يبقى مُراً ـ حتى المشاوير التي اعتدت عليها.. ما بين العصر والمساء، أبحث عن عصافير كانت تعود إلى أعشاشها وهي بطان.
ما الذي أخبر العصافير بهذه الحرب، فجعل غناؤها حزيناً هكذا.
ما الذي جعلها تعود إلى صغارها خماصاً.
أنا أراهن أن شارع النيل أصبح مجرد شارع خالٍ من الأنس والإلفة، خالياً حتى من النيل.
أم درمان هل مازالت أم درمان التي غنى لها خليل فرح وأحمد المصطفى؟ هل شارع أبوروف يؤدي إلى أبوروف أم أصبح يؤدي إلى سجن كبير؟
هل الحياة في السودان بذلك الصخب؟ أم تغير الناس مع تغيير العملة؟
كنا نسافر ونتغرّب ونتُـوه بين الموانئ بلا مراسٍ، وعندما يغلبنا الحزن ويبلغ فينا الإرهاق مبلغاً يجعلنا نسمع آنين ضلوعنا، نعود إلى محطة شندي فنمتلئ بالدفء والحنان.
محطة شندي كانت ككل الأشياء في السودان، كانت وطناً مصغراً.
بنطون شندي.
بنطون رفاعة.
بنطون أم الطيور.
بنطون توتي.
بنطون مروي.
بنطون دنقلا.
هذه البنطونات كانت عبارة عن جامعات سفر.
الحياة في السودان عندما كانت صعبة كانت جميلة، كنا نجد في مشقتنا راحةً ـ الحياة في السودان عندما أصبحت سهلة، زادت الخلافات والصراعات والحروب.
كنا ناس (حُنَـان)، وكانت دموعنا قريبة وقلوبنا رهيفة، رغم صعوبة حياتنا.
والحنان ليس نقيضاً للقوة ـ للذين يفهمون ذلك عليهم أن يصححوا مفاهيمهم.
يحيى عليه الصلاة والسلام وجد القوة والحنان (یَـٰیَحۡیَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَـٰبَ بِقُوَّةࣲۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِیࣰّا (١٢) وَحَنَانࣰا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةࣰۖ وَكَانَ تَقِیࣰّا (١٣)) [سُورَةُ مَرۡيَمَ: ١٢-١٣].
القوة هنا يجملها الحنان والتقوى، ليس هي قوة مفرطة.
الذين يفهمون أنّ (الحنان) ضعف، حوّلوا حياتنا إلى جحيم ـ نتعامل مع أناس بلا رحمة، وبلا قلوب، يقول عليه الصلاة والسلام “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ”.
هذه الحرب أثبتت أن القوة وحدها لا تكفي، بل يمكن أن تكون القوة خطراً إن كان صاحبها يفتقد الحنان والتقوى، وهذا ما تشاهدونه الآن.
القوة التي يمتلكها الغشيم الجاهل مشكلة وهذا تثبته مليشيا الدعم السريع.
إنهم قوة بلا رحمة، قوة بلا عقل، قوة بلا هدف.
في أوجاعنا الكبيرة صدمنا بنبأ رحيل الصحفي الأستاذ عمار محمد آدم ـ رجل راكز وصامد، قاتل في الوسط الإعلامي بضراوة، دخل المُعتقلات وتعرّض للتعذيب والضرب وهُدِّد بالقتل، ومات أخيراً بحمى الضنك، أُصيب في جسده بجروح كثيرة في المعارك التي خاضها، السياسية منها ،والثقافية، لدرجة أنه لم يعد هناك موضع خالٍ بحجم “شبر” إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح.
كان مقاتلاً بحق، تجده في كل الندوات والتجمعات الثقافية منافحاً برأيه، حتى إنّ المتحاورين صاروا يخشونه ويتجنّبون رؤيته.
كان زول دوغري وواضح، قد تختلف معه في رأيه، لكن لن تختلف معه في صدقه. وكنت دائماً انظر له وهو يمثل الرأي الآخر الذي كنا لا نحتمله.
كان يمثل (الرأي الآخر) في كل شئ، ولكل الناس، يُؤسفني أن أكتب عنك بعد رحيلك يا عمار، وهذا شئٌ كان يجب أن نشهد له بك، وأنت حيُّ بيننا تجابه الصعاب وتحارب وحدك.
مشاعرنا تبلّدت، أصبحنا لا نشعر بالشخص إلا بعد أن يرحل ولا ننصف الإنسان إلا بعد أن يموت.
عمار محمد آدم كان يمثل الرأي الآخر، حتى في الحركة الإسلامية كان يمثل فيها الرأي الآخر ـ لذلك هم أكثر جهة لم تحتمله، ودخلت في صدام معه.
مثّل عمار محمد آدم السودان بتنوعه الثقافي، فهو تجده في اجتماع للحركة الإسلامية، وتجده في حولية الختمية، وندوة الأمة، حتى الحزب الشيوعي لبس جلبابتهم الحمراء وخرج معهم في مسيراتهم ومظاهراتهم السلمية، وردد شعاراتهم.. كما لبس الجلابية الخضراء مع الصوفية وشاركهم في ليالي الذكر.
هو هكذا ـ فقد انكشف لنا أننا في هذه الحرب نفقد كل ما هو نادرٌ، نفقد كل ما هو فريدٌ.
عمار محمد آدم كان كتلة ثقافية متنوعة، يحفظ شعر حمّيد ويجادل في شعر محجوب شريف، يغني مع وردي ومصطفى سيد أحمد ويدخل حفلات عقد الجلاد.
مرة ونحن في صحيفة الأحداث زارنا عمار محمد آدم، اذكر جيداً ذلك اليوم، عندما حدثني عن أنه رافق ابنه الصغير ودخل لمباراة الهلال، حدثني عن الهلال بشئ من الفخر، قال لي إنك عندما تدخل مباراة للهلال تشعر بأنك تؤدي واجباً وطنياً، قال لي الهلال فيه كل طقوس الوطن، عندما تكون في حضرته، تكون في حضرة الوطن.
كانت مقار الصحف ومكاتبها جزءاً من سكنته التي يهرع إليها.
لم يكن عمار محمد آدم نشيطاً فقط في المجال السياسي والإعلامي، كان نشيطاً في المجال الاجتماعي، تجده في كل المناسبات وكأن عمار محمد آدم هو ألف عمار محمد آدم، تجده في المستشفى، وتجده في العرس، وفي البكاء، وفي مكاتب كل الصحفيين، لا يغيب عن أحد ولا يضع فواصل بينه والآخرين لأسباب سياسية أو نعرات قبلية، كان يحب الجميع، حتى مَن يختلف معهم، ظلّ يحمل هَـمّ هذا الوطن حتى مات بحمى الضنك بعد أن رفض الخروج وهو يملك إلى ذلك سبيلا ـ فقد سافر أبناء الولايات الأخرى نزوحاً للشمالية ونهر النيل وهو رفض العودة والسفر إلى جذوره ومسقط رأسه ـ فضّل أن يموت راكزاً بحمى الضنك.
يا لوجعتنا، ويا لحزننا عليه، فقد كتب عمار محمد آدم آخر كلماته وهو مريض في الفراش على صفحته في “فيس بوك”: “الحزن الجاثم على صدري يجعلني أصحو مذعوراً، رغم مرض حمى الضنك التي جعلتني هيكلاً عظمياً، لكنها الفاشر.. لا أقوى على تحمُّل ما حدث”. لقد كان يحمل هَـمّ الفاشر وهو على فراش المرض على بُعد ساعات من الموت، كان يحمل همّها وهو هيكل عظمي، وهذا تأكيد على أننا (كلنا الفاشر)، فعمار محمد آدم لم يتداع فقط المرض من أجل الفاشر، بل تداعى هماً من إجلها حتى (الموت) ، وهذا أقصى غاية الإحساس بالوطن، فهل هنالك دليلٌ للوحدة والصمود والتماسك أكثر من ذلك؟
وفي منشور آخر وأخير كتب: “الرعب الذي أدخله هؤلاء الوحوش في أحداث الفاشر جعلنا نفقد الإحساس بالحياة”.
لقد فقد عمار آدم الإحساس بالحياة حتى مات ـ فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ ـ هو صادقٌ في كل شئ ـ صادقٌ في حياته وصادقٌ في موته.
هذه الكلمات كانت آخر ما كتبه الراحل على صفحته في “فيس بوك” ـ كلماته تلك كانت قبل رحيله بـ(24) ساعة، إنسانٌ صامدٌ وراكزٌ حتى وهو في فراش الموت، على بُعد ساعات من الرحيل.
في 24 أكتوبر أي قبل أسبوع من رحيله، ماذا كتب عمار محمد آدم، نكتب ذلك حتى لا ننسى.. كتب عمار قبل أسبوع، وكأنه يكتب وصيته للثوار (من فراش المرض أناشد الثوّار أن تظل نار الثورة متقدة)، الذين كتبوا عن عمار ونقلوا لنا آخر كتاباته، لا أدري لماذا لم يتوقفوا عند هذه الوصية.. ربما فعلوا ذلك لشئ في نفس يعقوب، فهم غير آمنين حتى في نقل وصية ميت مكتوبة، على الأقل كان يجب أن يتوقفوا عند هذه الوصية وهو في فراش المرض وهو يقول (من فراش المرض أناشد الثوّار أن تظل نار الثورة متقدة).
لهذا كنا نحب عمار محمد آدم ـ ولهذا كان عمار محمد آدم شاملاً، وكان يرى ما لا يراه الآخرون.
في 21 أكتوبر كتب عمار محمد آدم (أنا الآن في مستشفى النو وكأنني في سوق أم دفسو).
هذا تلخيصٌ لكل شئ ـ إنّ الذي يحزننا أكثر أنّ هؤلاء الذين كانوا يحملون هَمّ الوطن وهم أحياءٌ، رحلوا دون أن يروا وطنهم يعود لحالة الأمن والاستقرار ـ رحلوا دون أن يجدوه كما يحبون أن يروه.
اللهم نسألك الرحمة والمغفرة لعبدك عمار محمد آدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أحفظ السودان أرضاً وشعباً، وأبقي عليه متوحداً ومتماسكاً ومستقراً وآمناً.
اللهم أخسف بكل من يريد السوء لهذا الوطن ويجهر بذلك، وأخسف لسابع أرض كل من يدعي البحث عن مصلحة الوطن وهو يضمر السوء للوطن ولا يبحث إلا عن مصلحته.

متاريس
احتفلت مصر أمس في مشهد عظيم بالمتحف المصري الكبير.
تقول ديباجة المتحف في الموسوعة الحرة (المتحف المصري الكبير (اختصارًا GEM) هو أكبر متحف للآثار المصرية القديمة في العالم. يقع على بُعد أميال قليلة من غرب القاهرة بواجهة تطل مباشرةً على أهرام الجيزة. يضم المتحف أكثر من 100,000 قطعة أثرية من العصور الفرعونية واليونانية والرومانية، بالإضافة إلى مبانٍ للخدمات التجارية والترفيهية ومركز ترميم وحديقة متحفية، وتم تصميمه ليستوعب 5 ملايين زائر سنويًا. أطلقت مصر حملة دولية لتمويل مشروع بناء المتحف، كان أبرز مساهميها وكالة جايكا اليابانية بقروض ميسرة. يعد المتحف وجهة سياحية رئيسية تساهم في نمو قطاع الإقتصاد).
في مصر هذا متحف لتاريخ ما قبل الميلاد ـ نحن في السودان نجحنا في أن نجعل حاضرنا تاريخاً ـ نجحنا في أن نحول السودان إلى (متحف كبير)، ولكن متحفاً للجثث، ولتحويل كل منشآته وبنيته التحتية ومبانيه لآثار ـ نحن أيضاً علينا أن نفتتح المتحف السوداني الكبير للمواطنين الذين أصبحوا مجرد (آثار)، ولكن بدون قيمة.

ترس أخير: ربك يلطف.. سَـنعُود ولو بعد حِـين، وسَيبقى الوطَــن كما يجب أن يكون السُّـــودان.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.