صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

العزف على وتر الأحزان (رثاء)

37

أبو عاقلة اماسا

ابوعاقلة اماسا

العزف على وتر الأحزان

أبي الطيب الماحي: كان ضيفاً وحامل مسك مر بالدنيا على عجل..!
رغم مرور ما يزيد عن الأسبوع، مازلت أبحث عن كلمات وعبارات أرثي بها صديقي ورفيقي (أبي الطيب الماحي).. ذلك المريخي الذي سما بنا لسنوات قبل أن يرحل ويتركنا في فراغ يكاد لا يحد، فالإنسان يقف أحياناً على أوتار قلبه ليعزف ألحاناً تؤثر في نبضات القلب، وفي إيقاع الأنفاس، فهو ما يزال إنساناً سودانياً خالصاً، جمعتني به محاسن الصدف، فأحببته كما لو كان شقيقي من أمي.. وظننت أنه إنسان فريد في خصاله وطباعه ولكنني اكتشفت أن كل أهله في قرية ود جار النبي بذات الشمائل.. كان محباً للمريخ بهدوء عاصف، لا تفوته مباراة دون أن يشاهدها من المقصورة الطائرة الجنوبية حيث إعتدنا الجلوس طيلة (11) عاماً، وعندما يلعب المريخ وهو خارج العاصمة، يبرمج لحضور المباراة في جو خاص منذ الصباح الباكر فيجتهد في إنجاز مهامه مبكراً قبل أن يبدأ طقوس مشاهدة المباراة.. فالمريخ عنده حالة (كيف) خاص.. يجب أن تجهز معه شاي اللبن والقهوة والشاي الساده.
أبي الطيب.. إسم سيظل محفوراً في جدران الذاكرة يقاوم كل عوامل النسيان، لأنه لم يكن ذلك الشخص الذي يذهب إسمه مع الرياح الموسمية إلى عوالم مجهولة، وكأنه خلق في عالمنا ليبقى في ذاكرتنا إلى أن نلقى الله.. لا يبارحها لحظة، ولا تغيب إبتساماته وصوته وعباراته الموغلة في (البلدي المحبب) والمحلية التي تعبر عن أصالة وحضارة، فنحن نتذكر إبتساماته وضحكاته ونكاته وقفشاته لأننا لم نجده يوماً قط في حالة شغب أو مشاجرة مع أحد.. وهو في أشد لحظات غضبه يكتفي بعبارة (مافي داعي)، كما تميز بقوة الإرادة وعفة اليد واللسان، وكان شديد الفخر ببداياته في سوق العمل، منذ أن كان مع رفيق دربه الشهيد عزالدين الربيع يمتلكان سيارتي تاكسي، وقبل أن يعمل طويلاً في مجال النقل وعالم الشاحنات، ثم ينتهي به الأجل مغترباً في دولة الكويت وتقلب علينا هذه الدنيا وجهاً لم نألفه بدونه.. ثم يشق الناعي تلك الليلة الغريبة ليلقي علينا مثقالاً من الحزن برحيل نبيل آخر من نبلاء زماننا هذا.
أبي الطيب الماحي: لم يحضر نفرة من نفرات المريخ إلا كان أول المساهمين دون أن يحرص على الظهور والتباهي، وأذكر أنه في ذات مرة ذكر ضمن المساهمين في عمود الزميل ياسر المنا فبدا عليه الإحراج، فهو لم يكن بالشخص الذي يحب الضجيج والإزعاج، فلا تجده إلا هاشاً باشاً مؤمناً بقضاء الله وقدره، فكان ناجحاً في إمتحان قاسي جداً وهو يفقد إبنه وفلذة كبده (الطيب)، فعبر من بين غابات الأحزان ليواصل المسيرة رجلاً ناجحاً محبوباً لدى كل أصدقائه من أقربائه الذين كنا نلتقي بهم في أم درمان: (عصام، عوض، المقدم أبوالمعالي، عبد القادر نور الهدى، ماهر، راشد).. وغيرهم من أقاربه وأصدقائه.
في بعض الأحيان كان يتصل بي قائلاً: يابوي إنت بقيت هلالابي والا شنو؟.. فأجيبه: دي الحقيقه.. دايرني أكضب عليكم؟… فيقول: لا ما تكضب.. لكن كلامك ده مو صعب..!… وعندما يتعرض المريخ لخسارة بعد ذلك يأتي غضبه نبيلاً كما هو.. ولكنه يكون مهموماً بالطريقة التي سيقابله بها أصدقائه الهلالاب.. فعندما يكون الدور عندهم يقوم بالواجب على أكمل وجه..دون أن يخرج عن الذوق الذي عرف به وكان سبباً في أن نحترمه ونقدره.. فهو لا يسيء للأخوة الصادقة التي تربطه بالآخرين من كل الأجناس، ولا يتفوه بعبارة تخصم منه.
إتصل بي ذات مرة من كسلا وطلب مني اللحاق به هناك إذا لم أكن مرتبطاً بعمل في الخرطوم، فقلت له أن عملي مرتبط بجهاز اللابتوب ولا يتأثر بوجودي بالمكتب، فلحقت به فمكثناً أياماً كنا نخرج فيها لمتابعة بعض الشاحنات التي تعطلت في طريق (دورديب وهداليا وأروما)، ومرة أخرى كنا معاً ببورتسودان حيث كان مقر شركته وأنا مرافق للمريخ في إحدى رحلاته إلى الثغر ومرة أخرى عندما دخلت قوات خليل أم درمان، فقد عايشنا تلك اللحظات المرعبة معاً واضطررنا أن نقضي تلك الليلة مع الأخ جمال الكيماوي في بحري بعد أن تعذر وصولنا إلى أم درمان، وفي قمة الرعب والناس يهرعون ويتراكضون كان يضحك من الأعماق، وكأنه كان مطمئناً بأن ساعة رحيله لم تحن بعد، وفي مرة أيضاً إتصل علينا بله أبوشنب، أحد أقطاب المريخ المعروفين وأحد رواد النادي ووجدنا في خشم القربه في طريقنا إلى الخرطوم، وهو مع أهله بقرية رفاعة شرق القضارف، فكان أن خرج علينا مع أهله وأجبرونا على دخول القرية حيث استقبلونا بالذبائح وقضينا يوماً كاملاً في أريحية تحكي عن أصالة وطن.. وقديماً قيل: أنك لو أردت إختبار صديق ومعرفة مدى أصالته.. فرافقه في السفر.. وقد رافقت أبي في السفر وكان نعم الرفيق لا يكون سبباً في غضب أحد أبداً.. ولكن يقيني أن أمثاله لم يبق منهم الكثير في هذه الدنيا.
أبي: كان ضيفاً مر على الدنيا في عجل، حامل مسك رافقناه حيناً ولم نجد منه إلا ريحاً طيباً، وإني لأشفق على أشقاءه وأهل بيته على عظم الفقد الجلل.. ولكنها الدنيا.. والكل إلى ذلك المصير الموحد.. غير أننا سندعو له الله ماستطعنا: أن يتقبله قبولاً حسناً، ويجعل مرقده روضة من رياض الجنان، ويجعل بنته (سارة) من المواطنات الصالحات، وينقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغفر له وتجاوز يارب، وايبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، ورفاقاً خيراً من رفاقه وينزل عليه شآبيباً من الرحمة… آمين يارب العالمين.
قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد