صٌـابِنّهَـا
محمد عبد الماجد
المريخ في موريتانيا (والضُل الوٌقَـف ما زَاد)
في بداياتي الصحفية كنت (مندهشاً) حد إني بكون فاتح خشمي ومقهي، وواقف على فد رجل ـ والقهاي أعلى درجات الدهشة، أو هو الصورة الفعلية للدهشة.. كنت مندهشاً بشاعر الدهشة عمر الطيب الدوش (يجيني زمن امتع نفسى بالدهشة)، والإبداع في اعتقادي ودي فلسفتي الخاصة (ما بتلقوها في حتة تانية) هو القدرة على الاستمتاع بالدهشة، وليس في صناعة الدهشة، الإبداع مصدره المبدع ولكن مصبه المتلقي، والعبرة بالنهايات. بمعنى أنك قد تقف في لوحة سريالية رسمها مبدع وأخلص فيها وقضى عمره كله ينحت في رأسه، وينحت فيها، فلا تستوقفك، ولا تفهمها وتعتبرها مجرد شخبطة أو كلام فارغ، كما نقول على كثير من الأشياء التي لا نفهمها ولا نقيمها. الإبداع عندي ليس في الرسّام ولا في الرسمة، ولكن في من وقف عند هذه اللوحة فتحسّس كمية الإبداع المسجون فيها فاندهش فاستمتع.
الدهشة في القصة استخلصها بشرى الفاضل الذي كتب عن دهشته خالد الكد (فلبشرى مفرداته الخاصة المتميزة واستعاراته وتشبيهاته المدهشة: (وجرى دمعي لا كما يجري دمع امرأة كاذبة في مأتم مفتعل ولكن كالتماسيح المُفترى عليها)، و(كنت متلوياً بالبهجة كعمامة إعرابي يزور المدينة للمرة الثانية)، (هنا اذاعه ضربة الشمس والسحائي)).
عمامة أعرابي يزور المدينة للمرة الثانية طبعاً بتكون ملفوفة بعناية أكبر من المرة التي جاء فيها الأعرابي للمدينة لأول مرة ـ الأعرابي في المرة الثانية، المدينة بتكون وقعت ليه والدهشة نفسها بتكون أقل من الدهشة الأولى، لذلك هنالك عناية أكبر بالعمامة.. لكن الذي يعنينا من ذلك دهشتنا نحن مَـن نقرأ ونطلع على القصة، لذلك بشرى الفاضل مبدع في الدهشة قصصياً أو نثرياً كما هو إبداع الدوش شعرياً.. في التمثيل يدهشني الطيب الشعراوي، هو ممثل (مدهش)، الدهشة ظاهرة في عيونه.. دائماً تشعر بأنه زول مدهوش.
الدهشة قد تعني عندنا الخلعة، إنتوا ما بتسمعوا بالزول وقت يندهش بشئ بقول: والله اتخلعت خلعة… أو يقول ليك لمن اتخلعت!! واتقطعت زراير القميص، وقميصي لونه قلب من الخلعة، جمال حسن سعيد عندو (زولة تفتح الروح ضلفتين تخشك.. وتمرقك ما بتقفل الباب من وراها)، دي الزولة البتخلع ذاتها. الكديسة البتعاين للفأر وهو حائم قدامه وبتنتظره يجيها (ديلفري) بتخلع!! الماهية البتصرفها قبل ما تصرفها بتخلع!! والبعمل فيه جان كلود دا برضو بخلع!!
كل ذلك اعتبره حقول دهشة سودانية، أبدع فيها الدوش وبشرى الفاضل والطيب الشعراوي وجمال حسن سعيد وتنقا فأنتجت حقولهم (دهشات) على غرار ما تنتج الحقول من قمح وسمسم وقطن في ربوع وسهول الوطن العزيز.
أنا قلت تنقا!!؟
هذا هو مفهوم الإبداع عندي ويثبت ذلك الطفرة التي حدثت في مجال الاتصالات وتكنولوجيا التواصل وأثبتت أن جودة الأشياء وروعتها ودهشتها يحددها المتلقي أو المستهلك أو الجمهور وليس المبدع، والتفاعل مع الشئ هو الذي أصبح يمنح الشئ القيمة وهو الذي يلفت إليها الأنظار. (دي وقعت ليكم؟ تعبتوني وقوّمتوا لي نفسي عشان أوصل ليكم الفكرة) وبعد دا يطلع واحد ويقول ليك دا هلالابي حاقد، نحن الهلالاب نحقد على منو؟ ونحقد على شنو؟ يمين العزة الفينا بتخلينا في ريال مدريد ما بنسأل.. نحن ما في حاجة بتملأ عينا غير الهلال (وفي الفؤاد ترعاه العناية) ودي قدرة على الشعور بالدهشة.
أنا ما زلت مندهشاً بالدوش، وفي الغالب تفقد الدهشة لمن تمرمطك الحياة وتجبرك الظروف على أن تفعل أشياءً لا تروق لك، الماديات عندما تفرض جبروتها، تخرج الدهشة من الباب عندما تدخل الماديات من الشباك فتصير مُتبلِّد الأحاسيس، دغيل الشعور وإحساسك ميت، ودمّك بارد وأضانك تقيلة ورأسك كبير، وعندك مُشكلة مع كل ضمير مبني للمجهول معتقداً أنك المقصود بذلك المجهول، زي الناس الذين اختاروا أن يصفقوا للخراب والدمار وأن يدعوا للحرب بدواعٍ وطنية والوطن برئٌ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب، الغريبة وهذه معجزة قرآنية لغوية أن من بين كل الحيوانات والتي يعرف كثير منها بخصال حميدة مثل الوفاء والبراءة والشجاعة والوداعة والصبر والاحتمال والذكاء التي توجد تباعاً في الكلب والأرنب والأسد والقط والحمار والثعلب أو القرد عندما نريد أن نؤكد البراءة من التهمة بنتمثل ببراءة الذئب، الذي اتهم بأنه أكل سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، من دون كل الحيوانات.. تخيلوا أن أخوة يوسف كانوا أشد قسوة على أخيهم من الذئب، وأن الذئب كان بريئاً مما اجترفه أخوة يوسف في أخيهم عندما ادعوا أن الذئب أكله فجاءوا عشاء يبكون وهم يحملون قميصه بدماء كذب (ما أكثر الذين يبكون الآن وهم يحملون أقمصة الوطن بدماء كذب).. هذه بحور لا قدرة لنا بها ولا علم سبحانك اني كنت من الظالمين.
من الدروس التي نجب أن نقف عندها في قصة يوسف أن اخوته اتهموا الذئب أو علقوا جريمتهم في الذئب لأن الذئب سُمعته سيئة ولأنه غدّار ومفترس ويعرف عنه ما اتهم به، لكن الذي نستفيده أكثر من ذلك هو أن الذئب رغم سُمعته السيئة تلك ورغم غدره وبطشه إلا أنه كان بريئاً، بل وأصبح يضرب به المثل في براءة من يُتّهم ظلماً. هذا درسٌ يجب أن نقف عنده وعلينا الاستفادة منه، علينا أن لا نتّهم الناس بالظواهر، وأن لا نحكم عليهم بالسُّمعة، وإذا كان هنالك شخصٌ سيئٌ لا يعني ذلك أن نعلق فيه كل الجرائم والاتهامات والبلاوي، فقد يكون بريئاً، (شفتوا الفلسفة دي كيف؟)، وسبحانك ربي اني كنت من الظالمين.
أعود وأقول دهشتي بالدوش لم تنتهِ لكن وجدت أن أقلل من الإفراط فيه، فقد وجدت نفسي في بداياتي الصحفية أسرف في الإكثار منه، حتى إني أكاد ألا أجد موضوعاً كتبته دون أن أدخل الدوش في جملة مفيدة أو غير مفيدة، انتبهت لذلك فقرّرت أن أقسط في ذلك وألّا أسرف فيه وألّا أكتب عن الدوش ولا أدخله إلّا في الشديد القوي. وها أنا ذا أفعل.
الدوش كان يقابل إبداعه بإهمال ولا مبالاة وكان لا يقف عند هذا الذي مازال يدهشنا.
كان الدوش يكتب قصائده على الرمل، الأكيد أنّ هنالك قصائد اندثرت ودفنتها الرمال ولم تنقل عنها، والشاعر يحيى فضل الله يحكي انه نقل إحدى قصائد الدوش التي كتبت في الرمال وأنقذها من الاندثار، وكان الدوش يكتب في خلفية صناديق السجائر ووصلنا من ذلك الحزن القديم والود وبناديها (محمد وردي) والساقية (حمد الريح) وسحابات الهموم (مصطفى سيد أحمد) وسعاد (كابلي) وقصائد اخرى لم تغن، لكن الأكيد ان الذي ضاع من اشعار الدوش أكثر، فلا الرمال ولا صناديق السجائر لها خاصية واحدة من خصائص البقاء والحفظ والتوثيق والخلود.
مرة سألت محمدية رحمة الله عليه وهو صاحب أخطر كمان في المدرسة الوترية عن اللحن الذي يرهقه، أو اللحن الذي توجد فيه تعقيدات ساحرة فقال هو لحن أغنية (بناديها) ومحمد وردي أعطى أغنيات الدوش اهتماماً خاصاً، مقدمة الود الموسيقية (إبداع)، والمرحلة التي غنى فيها وردي للدوش هي المرحلة التي نقلت وردي من المباشرة إلى الرمزية ومن الأغنية الرومانسية الكلاسيكية إلى الأغنية الرومانسية الفلسفية ـ اغنية (الود) تمثل نقلة في الأغنية الرومانسية (أحبَّك لا الزمن حوّلْنى عن حُبّك ولا الحسرَهْ.. وخوفى عليكَ يمْنَعْنى .. وطول الإلفَهْ والعُشْرَهْ .. وشوقى الليك طوَّل..
لسّه معاي ولى بُكْرَهْ)، لكنها لا تخلو من العمق الفلسفي، وتمثل اغنية (بناديها) رمزية عالية، ربما لم نصل بعد لفك طلاسمها (بفتِّش ليها في اللوحات.. مَحَل الخاطر الما عاد.. في شهقَة لون وتكيَة خط.. وفي أحزان عيون الناس..
وفي الضُّل الوقَف ما زاد). هذا اعلى درجات النضال الرمزي، أين نحن من هتيفة (بل بس)، وشبيحة الجغم والشفشفة الذين يريدوا أن يعيدوا الديمقراطية والحريات عبرها. ديمقراطية، بالتدوين والمسيرات والفتك والمتك… دي ما ديمقراطية، دي كمونية، أو هكذا يبيعونها في سوق ٦.
تلك الزولة البفتش ليها الدوش في اللوحات وفي أحزان عيون الناس في (بناديها) بنلقاها في (الحزن القديم) والدوش يعلن عنها (بتطْلَعِى إنتِ من غابات..
ومن وديان ومنى انا..
ومِن صحْيَة جُروف النيل..
مع الموجَهْ الصباحيَّه..
ومن شهقَة زهور عطشانَهْ..
فوق احزانهْا متْكَّيهْ..
بتَطْلَعي إنتِ من صوت طِفلَهْ..
وسط اللمَّهْ منْسيَّهْ..).
انها هي.. هي.. والحزن القديم استراجع لقصة ماضية.
القدم، هو الإرث وعندما ترد شيئاً إلى قدمه أنت ترده إلى أصله ـ فلسفة إغريقية (قديمة)، بهذا جاء (الحزن القديم)، أعظم فلسفيات الحزن في الأغنية السودانية.
وتمشي معاي خُطانا الإلفَهْ والوحشَهْ..
وتمشى معاي وتْرُوحى..
وتمشى معاي وسط رُوحى..
ولا البلْقاهُ بِعْرِفنى..
ولا بعرِف معاكْ..
روحي..
ومابِنْتِ ولا التذكار..
ولا كُنْتِ..
هذه هي النهاية في أغنية (الحزن القديم) وتمشي معاي وتروحي وتمشي معاي وسط روحي.. لا البلقاه بعرفني ولا بعرف معاك روحي.. النهاية في الحزن القديم تشبه من حيث (الفلسفة) البداية في أغنية (اقابلك) لإسحاق الحلنقي.. (اقابلك في زمن جاي وزمن لسه)، يقال ان المطلع هذا كتبه الدوش وأتمه الحلنقي بطريقته البديعة، وإن لم يكتبه الدوش فإنّ تأثير الدوش على الحلنقي هنا واضح، وقد كان إسحاق الحلنقي قريباً من الدوش وقد رافقه فترة طويلة ومازال الحلنقي يتحدث عن شاعر الدهشة الدوش بكل دهشة، مازالت دهشته به قائمة.
بالمناسبة كان حال المريخ عندما نظم السوبر السوداني في تنزانيا (وصيفاً)، بعد أن انسحب المريخ أمام الهلال في دار السلام، ديل في (دار السلام) انسحبوا يا ربي في (دار الرياضة) ح يعملوا شنو؟
لا قديم يعاد ولا جديد يذكر، بل قديم يعاد وحال المريخ في دار السلام كان مثل حاله في أم درمان، لم يغادر مقعد (الوصيف)، ومثلما انسحب المريخ وشالوا الكورة وطلعوا في أم درمان، فعلوا ذلك في دار السلام وانسحبوا أمام الهلال بعد التسخينة.
وما يحدث من المريخ في موريتانيا هذا الموسم، يجعلنا نطبق عليه مقولة الدوش (والضل الوقف ما زاد)، وأصلاً الإعلام اليوغندي ما أطلق لقب (الضل) على المريخ من فراغ، الجديد هو أنّ هذا الضل وقف وما زاد.
مزمل أبو القاسم أطلق على المريخ لقب سار به الركبان، والإعلام اليوغندي أطلق َ على المريخ لقب (ضل الهلال) أي وصيفه، ونحن ما قلنا أي حاجة، نحن ما عندنا أي ذنب.. ما عارف الإعلام الموريتاني ماذا سوف يمنحهم من الألقاب بعد نهاية الدوري الموريتاني؟
نعود للدوش ـ خلونا عليكم الله من الكلام الكتير.
نأتي إلى قمة النضال الرمزي في أغنية (الساقية)، التي تمثل أقوى جبهة كفاح ونضال غير مسلحة ضد الديكتوريات والشموليات. بمثل هذه النصوص تتحقق الديمقراطية لا بالمُسيّرات والتدوين المدفعي.
الساقية لسَّهْ مدوِّرَهْ
وأحمد ورا التيران يَخُب
أسيان يفكّر مُنْغَملِ
ما بين بُكا الساقيَهْ
ما بين طُفولَهَ بتِنْتَحِب
في اللّي ما شين المدارس
في المصاريف في الكُتُب
في اللّي ضاق عنُّو المكان
وهسَّه سافَر واغتَرب
لِمُدُن بعيدَهْ تنوم وتصْحى
على مخدّات الطَرَب
هذا هو حالنا الآن، (في اللي ضاق عنو المكان وهسّه سافر واغترب).. لقد ضاق علينا الوطن بكل أراضيه وسهوله وهضابه وجباله.. نحن في مدن تنوم وتصحى على مخدات الطرب.
قوات الدعم السريع جعلت الوطن أضيق علينا من حَلة البريستو.. أما هم فلنا عودة لهم.
..
متاريس
حكمة الله.. لكصر الذي اتهموا الهلال بالتواطؤ لصالحه، سوف يلعب الهلال أمامه مباراة يبحث فيها الهلال عن التتويج، ويبحث لكصر عن البقاء والنجاة من الهبوط.
نبحث مع لقب الدوري على لقب الهداف.. نتمنى أن ينجح الغربال في تحقيق هدّاف المنافسة.
ما عـاوزين نخلي شئ ورانا.
بالتوفيق للهلال.
ونقول يا رب.
…
ترس أخير: السخانة الأيامات دي زي المكوه المُولِّعة وقت تسخِْن شديد، تقوم تشوف ليك قطعة تبلّها عشان تبرِّد المكوه.. سخانة الأيامات دي أصعب من المكوه دي.