العمود الحر
عبدالعزيز المازري
الهلال والمريخ… أندية للبيع وهوية للإيجار!
الهلال والمريخ اليوم يشبهان تمامًا حال بعض من يتولى أمر الرياضة في بلادنا… كلٌ يغني على ليلاه، لكن الفارق أن ما أوصلنا إلى هذا الدرك ليس فقط سوء الحظ أو قسوة الظروف، بل غياب الفكر وطمس الهوية. الهلال جاء بمجلس منتخب، صحيح أنه وجد بعض من يعشق المدرجات ويعرف نبض الجماهير، لذلك ظلّ ملتصقًا بالحياة الرياضية وحافظ – ولو نسبيًا – على وجوده. أما المريخ، فعاش مراحل قاسية جدًا شهدت تكتلات وصراعات داخلية أنهكت النادي وأبعدته عن مكانته، حتى كاد أن يفقد معناه.
لكن وسط هذا الواقع المظلم تبرز شخصيتان تلخصان الحكاية: النمير في المريخ، والعليقي في الهلال. كلاهما قاد ناديًا كبيرًا في مرحلة حساسة، وكلاهما – رغم اختلاف الوسائل – ساهم في ضياع الهوية. النمير تسلّم المريخ في وقت العاصفة، لكنه لم ينجح في تحقيق المأمول، ومع ذلك فإن الكارثة الحقيقية لم تكن في الإخفاق الفني، بل في فقدان الفريق لعناصره القوية ورموزه التاريخية. المريخ تخلّى عن لاعبيه الكبار، وأصبح يعتمد على مجموعة باهتة لا تشبه اسم النادي، فضاع الإرث، وأصبح الطريق نحو العودة طويلًا ومليئًا بالأشواك.
في المقابل، لم يكن ما فعله العليقي في الهلال أقل ضررًا، بل كان نسخة أكثر خطورة من التجربة المريخية. بدأ مشروعه الاستثماري بوجه اقتصادي بارد، وأقصى اللاعب الوطني لصالح الأجنبي الذي يلعب لنفسه ويعرض نفسه للبيع. استُبعد القادة، وتُركت روح الفريق تتآكل، حتى تحوّل الهلال إلى سوق مفتوح للشراء والبيع. لم يعد الفريق يمثل الجماهير، ولم تعد الألوان تعني الانتماء، بل أصبح الشعار مجرد واجهة لاستثمارات أشخاص.
وهكذا، ما فعله الرجلان – أو لنقل المجلسان – هو قتل هوية ناديين عريقين. ولن تقوم لهما قائمة ما لم يُبنَ المشروع من جديد على أساس وطني صلب. فالهوية حين تضيع لا يمكن شراؤها بصفقة، ولا تُعوَّض بأجنبي مهما كان اسمه، والولاء لا يُستورد من الخارج. الهلال اليوم يعيش نفس ما عاشه المريخ بالأمس، والمريخ يسير في ذات الطريق الذي ضيّع الهلال هويته من خلاله. والنتيجة؟ فريقان تائهان، وأمة كروية لا تعرف من تمثل.
اللافت أن الاتحاد السوداني لكرة القدم يقف متفرجًا على هذه الفوضى التي تمارس باسم الاحتراف. لا ضوابط تحمي اللاعب الوطني، ولا تشريعات تجبر الأندية على استثماره وتطويره. النجم المحلي، مهما برز، مصيره الإعارة أو التجميد، قبل أن يخفت بريقه ويختفي بعد موسم أو اثنين. ولأننا نبحث دائمًا عن الحل الأسهل، نكرر ذات الأعذار: لا نملك أكاديميات، واللاعب غير مؤهل، والمدرب ضعيف… وكلها شماعات نعلّق عليها فشلنا بينما الحقيقة أمامنا واضحة كالشمس: كل إنجازات الكرة السودانية، سواء على مستوى المنتخب أو الناديين الكبيرين، صنعها أبناء البلد لا أقدام الأجانب.
ومع ذلك، نصرّ على الركض خلف السراب. فرقنا مقبلة على منافسات أفريقية بخطط واحدة: تسجيل أكبر عدد من الأجانب، وتهميش أبناء النادي، ثم انتظار معجزة في الملعب. والإعلام بدوره لا يزيد المشهد إلا ضبابًا، فهو مشغول بتزيين الواقع للجماهير وتوزيع جرعات “التمام” و”الأمور بخير” وكأن التطبيل سيحرز هدفًا أو سيصنع بطولة.
الحل لن يكون إلا بعودة أهل الاختصاص، وابتعاد التجار عن القرار. يجب أن نعيد الاعتبار لخبراتنا الوطنية، وأن نمنح أبناء الناديين الفرصة في التدريب والإدارة واللجان الفنية. لاعبونا السابقون يملكون المعرفة والخبرة، ويمكنهم بناء مشروع حقيقي إذا أُعطوا الثقة. فلماذا نغلق الباب في وجوههم؟ ولماذا يقبل خالد بخيت – وهو أحد أكثر من راكموا التجارب – بدور مساعد فقط لأجنبي، بينما يملك ما يؤهله لقيادة فريق بأكمله؟
يجب أن نعيد بناء الثقة في المدرب الوطني كما نعيدها في اللاعب المحلي. فهؤلاء أقل تكلفة، وأشد حرصًا، وأقوى انتماءً. أما أن نبقى أسرى لفكر “التاجر” الذي يحوّل الهلال والمريخ إلى أسواق، فسنظل ندور في حلقة مفرغة كما يدور الاتحاد في مكانه منذ نصف قرن، يذهب زيد ويأتي عبيد، والنتيجة واحدة: لا تقدم ولا تطور.
الحقيقة المؤلمة أن كرة القدم ليست لعبة فقط، بل هوية وثقافة وانتماء. وما لم ندرك هذه الحقيقة، فلن نتقدم خطوة واحدة. فالهلال والمريخ اليوم وجهان لعملة واحدة: إدارة بلا رؤية، وهوية مفقودة، وجماهير تُخدّرها الشعارات.
**كلمات حرة**
* من الصعب أن تبني بيتًا بلا أساس، والأصعب أن تبنيه بهوية ليست هويتك.
* الأندية التي تعتمد على “المعارض” و”الوافدين” لن تعرف الاستقرار أبدًا.
* حين يصبح اللاعب الوطني خيارًا ثانيًا في ناديه، فلا تسأل عن المنتخب ولا عن الكرة.
**كلمة حرة أخيرة**
أخشى أن نصحو يومًا فلا نجد للهلال ولا للمريخ ملامح… فقط ألوان وأسماء، بلا هوية ولا انتماء. نلعب بأقدام الآخرين ونحتفل بأهدافهم ونحزن لخروجهم… أما نحن، فأصبحنا مجرد متفرجين في مسرح صنعناه بأيدينا. والساخر أن بعضنا ما زال يصفق ويقول: “الأمور تمام!”، بينما الحقيقة أن “التمام” الوحيد هو ضياعنا الكامل إن لم نعد إلى أنفسنا قبل فوات الأوان.
بعض الأقلام معقول للخدمات وضد الاستقرار حسبي الله ونعم الوكيل فيكم أقلام ماجوره