صابنها
محمد عبد الماجد
بشكي ليكم يا مظاليم الهوى
في صيف 2010م، كانت القاهرة مثل (بيت العروس)، تضج بالحياة وتغلي بالدراما، دراما مصر في (شوارعها) وليس في (السينما والمسرح) كما يظن أهلها، وكما يكتب النقاد. في الشارع المصري هناك ألف عباس محمود العقاد وألف توفيق الحكيم وألف نجيب محفوظ وألف يوسف إدريس وألف عبد الحليم حافظ وألف عادل إمام وألف شيرين عبدالوهاب وألف محمد صلاح، الشارع في القاهرة مسرح كبير للحياة، كنت هناك برفقة الأستاذ عادل الباز، تجمّلت القاهرة وتكرّمت علينا حين التقيت بالإعلامي والشاعر الزين أحمد محمد، شاعر أغنية يا عمر (لما قسّموا للشقاوة أداها للناس البريدو) التي لحنها عبد الله الكردفاني وتغنى بها محمود عبد العزيز.
ومحمود الغنا عنده مثل (أحاجي الحبوبات) يوصل لك الوصف لغاية عندك. أو مثل (كوب الحليب) الدافئ.
الزين أحمد محمد كان يستقبل كل القادمين من السودان لمصر ويبقى معهم من صالة الوصول إلى صالة المغادرة في مطار القاهرة.
الزين كان متفتحاً مثل (زهر المواسم)، متوهجاً مثل (هلال العيد)، ابتسامته يغطي بها كل شوارع القاهرة فتتبسّم له القاهرة كما لم تتبسّم لأحد سواه. يعرف أسرار القاهرة حارة حارة وشارع شارع.
هذا الشاعر والصَّحفي أشعر لو إنّي كتبت عنه 20 مجلداً سوف أكون مقصراً في حقه. رحل في هدوء وهو يوقع في كل يوم على دفتر الحضور.. مازال حاضراً بيننا بحكاياته التي تشبه أمسيات القاهرة.
في ذلك الصيف، التقيت في أحد مقاهي القاهرة بالشاعر عزمي أحمد خليل وهو (قضفان) الشعر الرومانسي. كان يجلس على ركن في المقهى أظنه يحاول بذلك أن يخفي ألقه من الناس.
عزمي كان يلبس قميصاً أحمر، وكان يبدو متعجلاً كأنه يثبت أنه عاد بلا رصيد من الصبر (بريدك وفي انتظار عينيك كملت الصبر كله).. لقد نفد رصيده من الصبر!! يظهر عليه ذلك بوضوح. كان قلقاً حتى تبينت فيه (شلنا شوقنا رجعنا بيه).
وقتها كان محمد ميرغني قد جاء للقاهرة مستشفياً، فقمنا بزيارته في إحدى الشقق التي نزل فيها بالدقي، أتذكّر أن ذلك كان في إحدى الأمسيات، وكانت الدقي تختفي وراء الأشجار الضخمة، ذهبنا إليه ونحن نرفل في (حنيني إليك)، كان الجو بارداً، وشتاء القاهرة يجعلك تحتفظ بكفتي يديك في جيوب البنطال، دخلنا عليهم ووجدنا محمد ميرغني بجلباب سمني، ونسته مثل أغنياته، رجل فنان حتى في مرضه. كان مُحتشداً بـ(الأشواق)، مُزدحماً بها.
كان هذا أول لقاء يجمعني بالفنان محمد ميرغني، خرجت من عنده معبقاً بالأشواق ومحملاً بها (ما بنغيب عن بعض أبداً زي أحب اتنين قرايب)، حتى فاضت الطرقات من جراء (حنيني إليك).
رحل الزين أحمد محمد شاعر أشهر أغنيات الحوت (يا عمر) ورحل ملحن الأغنية المبدع عبد الله الكردفاني ورحل مؤديها الأسطورة محمود عبد العزيز.
رحل عزمي أحمد خليل ورحل محمد ميرغني ولم يبق من القاهرة غير (الذكريات). الآن عندما أزور القاهرة أبحث عن الزين وعن عزمي وأشعر أن مقاهي القاهرة لم تعد تقدم (القهوة)، إنّها أضحت تقدم شراب (الحزن) السادة، مع (الطاولة) المملة.. القاهرة خالية رغم ازدحامها، وصامتة رغم ضجيجها.
بعد ذلك، كنت قد التقيت بالفنان محمد ميرغني في منزله بالختمية في حوار صحفي برفقة الزميل حسن فاروق، والزميلة ماجدة حسن، ثم حاورته في لقاء إذاعي على أثير إذاعة هلا أف أم 96 في 9 فبراير 2021م، مازال موجوداً على “فيسبوك”، أذكر أنه جاء للحوار وهو مريض يتوكأ على عصاه، ورغم شدة المرض عليه وصعوبة الحركة ومشقة المصعد، وبرودة الطقس، إلّا أنّه كان في الموعد في برنامج (الضلع الثالث) على الهواء مُباشرةً.
هذه الحوارات مكّنتني من معرفة محمد ميرغني عن قُرب، هؤلاء المبدعون عندما تقترب منهم تُصاب بإشعاع غريب ودوار لا تعرف سببه.
كنت سعيداً أنّني تتلمذت على محاورة محمد ميرغني مثلما عشت دور (التلميذ) مع محجوب شريف وحمّيد وعثمان حسين ومحمد وردي.
محمد ميرغني كان مُعلِّماً، ومحجوب شريف كان مُعلِّماً، ومحمد وردي كان مُعلِّماً. أمّا عثمان حسين فقد كان (مُعلِّماً) في جانب آخر.
لم أحاور إبراهيم عوض ولا عبد الكريم الكابلي، لذلك أشعر أنّ البناء الصّحفي عندي فيه خَللٌ. وما زلت أشعر بمركّب نقص لأنّني لم أحاور إبراهيم عوض ولم أحاور الكابلي.
لم احاور محمد الامين وهو رقم لا يمكن تجاوزه ، كيف فات عليّ ذلك؟
ميرغني محمد بن عوف، هذا اسمه الحقيقي، غير أنه عُرف باسم محمد ميرغني، الاسم الفني الذي يحمل شيئاً من اليسر والسهولة والموسيقى، وقد أطلق عليه ذلك الاسم الشاعر حسن الزبير والملحن حسن بابكر، فصار يشتهر ويُعرف باسم محمد ميرغني، مع أنّ أوراقه الثبوتية والرسمية باسم ميرغني محمد بن عوف.
نشأ ميرغني محمد بن عوف في أسرة دينية ترجع جذور والده إلى الأبيِّض والشيخ إسماعيل الولي، المنطقة التي جاء منها إسماعيل الأزهري، وقد استقرّت الأسرة في أم درمان حي السيد المكي مع قدوم جيش الإمام المهدي.
أصول محمد ميرغني من ولاية نهر النيل منطقتي سقادي والمحمية، ووالدته من منطقة كبوشية، وقد استقر بهم المقام في الفكي هاشم، منطقة الخليلة، قبل أن تنتقل الأسرة إلى حي السيد المكي في أم درمان، حيث وُلد محمد ميرغني في أربعينات القرن الماضي.
تشبّع محمد ميرغني بشئ من التصوف، والتقى بالشيخ صادق عبد الله عبد الماجد الذي درّسه وتأثّر به، وكان والده صديقاً للفنان سرور وكان يسافر معه إلى كسلا وإريتريا في رحلاتهما التجارية، وقد كان والد محمد ميرغني محباً للفن والغناء.
منزل محمد ميرغني في حي السيد مكي بأم درمان كان قريباً من منزل عبد الله خليل ومن الشاعر حسن عوض أبو العلا، وعن طريقه تعرّف على الفنان أحمد المصطفى وأُعجب به، وكان محمد ميرغني معجباً بالفنان الأمين برهان.
لعب محمد ميرغني في نادي الأمير عام 1963وكان يلعب جناح يمين وكان يغني في نادي الأمير وفي رحلات النادي بعد الانتقال من أم درمان حي السيد مكي إلى حي الختمية في الخرطوم بحري، وقد كان يردد وقتها اغنية عبد الرحمن الريح (يا البديع يا الهواك سباني) وهي من أغاني الفنان الفاضل أحمد.
التقى محمد ميرغني بالشاعر إسماعيل حسن في السجانة عام 1965 وتعرّف في بيته على الموسيقار حسن بابكر الذي شكّل ثنائية مع محمد ميرغني ولحن له معظم أعماله.
غنى محمد ميرغني لإسماعيل حسن (اشتقت ليك) وامسكي عليك عيونك ديل، وأغنية (غريب) التي تخلى عنها محمد ميرغني لمصطفى سيد أحمد.
وغنى محمد ميرغني للشاعر السر دوليب في بداياته الفنية لو قدرت تغيب علي وغنى له أنا والأشواق في بعدك بقينا أكتر من قرايب، وأغنية مين فكرك يا حبيب في 1966م وقد لحن تلك الأعمال حسن بابكر. ومعظم الاغنيات التي تغنى بها في بداية مشواره كانت من الحان رفيق دربه حسن بابكر.
غنى محمد ميرغني لصلاح أحمد إبراهيم (سهمك الفتاك) وهي من الحانها، مع رواية اخرى تقول ان ملحنها هو حسن بابكر ، لكن الاكيد ان محمد ميرغني لحن (لو كان عصيت أمرك أنا) .
لمصطفى سند غنى محمد ميرغني (عشان خاطرنا) وهي من ألحان حسن بابكر وهي الأغنية التي جاءت في المركز الثاني في مهرجان الثقافة في السبعينات وكان المركز الأول لأغنية رجعنالك من كلمات عبد الباسط سبدرات وألحان بشير عباس وأداء البلابل. أغنية (عشان خاطرنا) نقلت محمد ميرغني من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى بقرار من وزير الثقافة والإعلام وقتها.
للشاعر الكبير صديق مدثر ومن الحان عبدالله عربى غنى (سبأ).
لصلاح حاج سعيد غنى محمد ميرغني لو كان عصيت أمرك أنا وما قلنا ليك الحب عذاب وغنى لحسن الزبير لا بتواصلي ولا بتفاصلي وأنا الصابر وأنا الباكي، وصلاح حاج سعيد وحسن الزبير كانا زميلي دراسة لمحمد ميرغني، بينما زامل محمد ميرغني الفنان الطيب عبد الله في معهد المعلمين بشندي. وقد عمل محمد ميرغني في التدريس حتى سن المعاش.
في برنامج (الضلع الثالث) قال محمد ميرغني ان زيدان إبراهيم تأنى في غناء اغنية (تباريح الهوى) التي كتب كلماتها التجاني حاج موسى ولحنها محمد سراج الدين (بشكي ليكم يا مظاليم الهوى أصلي مجروح مرتين)، فحولها شاعرها وملحنها لمحمد ميرغني اعتراضاً على تأخر زيدان في تقديمها، فرد زيدان إبراهيم، على، محمد ميرغني بأن آخذ منه اغنية (إذا الخاطر سرح عنك)، التي كتبها التجاني حاج موسى ولحنها لزيدان سليمان أبو داؤود، في الوقت الذي كان يستعد فيه محمد ميرغني للتغني بها بعد أن لحنها له عبد الله عربي. وغنى من كلمات والحان التجاني حاج موسى (كلمني يا حلو العيون). وهي من الاغاني التي كانت حدث في التسعينات.
للسر قدور غنى محمد ميرغني (حنيني إليك وليل الغربة أضناني) التي كتبها قدور في ليالي القاهرة ولحنها العاقب محمد الحسن، وهو نفس اللحن الذي وضعه العاقب لاغنية حمد الريح (الظروف يا حلوة دائما لعيون حلوة بتجيبنا) التي كتب كلماتها عزمي أحمد خليل، وغنى لعثمان خالد (ما جارتنا بنت حارتنا بنريدها) لحسن بابكر لحنا. وغنى لمحمد عبد القادر أبو شورة (احترت فيك أنا شن أقول) وغنى له الأغنية الشهيرة (عاطفة وحنان يا ناس) وغنى من كلمات الدكتور علي شبيكة الاغنية التي تحكي البهجة كلها (شفتك وابتهجت) والاثنين من الحان صديقه المقرب الفنان السني الضوي.
قال محمد ميرغني ان اغنية (أنا والأشواق) التي كتبها دوليب كان يفترض أن يتغنى بها عثمان حسين في حواري الاذاعي معه ،كما أن أغنية (الود) التي كتبها الدوش كان يفترض أن يتغنى بها هو قبل الفنان محمد وردي الذي لحن له اغنية (لو غرامك نار احب النار)، كما سجل معه في الإذاعة نشيد محجوب شريف (يا حارسنا ويا فارسنا).
مرة سألت عثمان حسين عن أغنية لفنان آخر تمنى لو أنها كانت أغنيته، فقال أغنية الطيب عبد الله (السنين) وهو نفس السؤال الذي سألته لمحمد ميرغني في التسجيل الموجود الآن على الشبكة العنكبوتية في برنامج (الضلع الثالث)، وقال محمد ميرغني نفس الأغنية التي تمناها عثمان حسين وهي اغنية (السنين) التي كتبها ولحنها وتغنى بها الطيب عبد الله (قالوا لي أنساه وامسح من خيالك ذكرياته وانسى كل الماضي وأبعد عن طريقه وعن حياته).
محمد ميرغني أطلق عليه (اختصاصي جراحة الأشواق) في الأغنية السودانية. غنى (حنيني إليك) للسر قدور و(اشتقت ليك) لإسماعيل حسن و(أنا والأشواق) للسر دوليب. اغنيات محمد ميرغني تغلي كالمرجل من الاشواق.
في أغنية اشتقت ليك يقول إسماعيل حسن (في اللحظة ديك اشتقت ليك شوق السحابة الراحلة) وهي أعلى درجة شوق رصدت في الأغنية العربية، لا نقول الأغنية السودانية.
شوق السحابة الراحلة شوق اكتشاف اسماعيل ، وهو شوق لم يسبق فيه اسماعيل حسن.
محمد ميرغني هو أخ الشاعر المعروف محمد المكي إبراهيم وهو ابن عم الصَْحفي الشهير عثمان ميرغني.
اشتهر محمد ميرغني بتشجيعه للهلال وكان من الفنانين أصحاب التأثير والقرار في الوسط الرياضي، وقد كان محمد ميرغني والسني الضوي وعبد العظيم حركة أصدقاء يجمع بينهم الفن والهلال. وكانوا يتواجدون في معسكرات الهلال بصورة دائمة للترفيه للاعبي الهلال.
نسأل الله تعالى الرحمة والمغفرة للفنان الكبير ومعلم الأجيال ميرغني محمد بن عوف.
…………
متاريس
رحل أيضاً في هذه الأيام الممثل والكوميديان هاني عوض الله الشهير بـ(أبو الدبش) و(كابوس)، الذي استطاع أن يضع بصمته الكوميدية في فترة وجيزة.
اللهم أرحم هاني عوض الله.
بسبب الحرب انتقل محمد ميرغني إلى مدني ورحل فيها، كما انتقل هاني عوض الله إلى عطبرة وانتقل منها إلى الرفيق الأعلى.
نسأل الله تعالى لهما الرحمة والمغفرة.
اللهم ارحم الزين أحمد محمد وعزمي أحمد خليل وعبدالله الكردفاني ومحمود عبدالعزيز وكل اموات المسلمين.
..
ترس أخير: حسبنا الله ونعم الوكيل.