صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

ثورة أكتوبر 64،،،

142

حصاد الألسن

عبدالله مسعود

ثورة أكتوبر 64،،،

في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من أكتوبر من العام 1964، وقبل حوالي ساعة من مغادرته مبنى وزارة التجارة في نهاية اليوم، تفاجأ صديقي عبدالمنعم خليفة خوجلي بدخولي إلى مكتبه دون سابق إنذار. كعادتي بين الفينة والأخرى منذ التحاقه بالعمل بالوزارة. اقترحت على منعم بدون أي مقدمات أن اقوم بتوصيله إلى مقر سكنه واستعارة سيارته الهيلمان (لوحة تسجيل رقم:1771 – ٢خ) لأتوجه بها إلى موعد مهم. حاول إقناعي بأن أذهب معه إلى بيت أخيه عبدالرحمن في بري لتناول الغداء قبل لحاقي بموعدي فقبلت دعوته على مضض حيث كنت على عجلة من أمري. لكن منعم إشترط علي العودة إلى منزل أخيه ببري قبل الغروب إلا أنني استطعت أن اقنعه – مستغلاً تسامحه وتساهله الدائم معي – بصعوبة عودتي قبل ذلك الوقت نظراً لانشغالي بين الساعة السادسة مساءً والثامنة مساءً للاستعداد لإمتحان نصف العام المقرر عقده صباح الخميس. قَبِل عذري مضطراً لكنه حذرني بأنه لن يقبل أي تأخير بعد تمام الثامنة مساءً. أكدت له عودتي في الموعد وأنه لا يمكنني التأخر على أي حال حيث أن لدي اجتماعاً بالسكن الداخلي (الباراكس) لجامعة الخرطوم مع أعضاء إتحاد طلاب جامعة الخرطوم للتشاور حول الإنتهاكات المستمرة لاستغلال الجامعة من قبل نظام الحكم القمعي. سألني عن سبب عقد الاجتماع بالسكن الداخلي للجامعة فأجبته بأن الأماكن التي اعتدنا الاجتماع فيها أصبحت في الفترة الأخيرة سهلة فى
الوصول إليها من قبل قوات الأمن وقوات مكافحة الشغب على عكس ثكنات السكن الداخلي التي يصعب التوغل فيها.
غادرت بعد الغداء وعدت له كما هو متفق عليه. أوصلني لاحقاً إلى ثكنات السكن الداخلي في الوقت الذي كانت فيه جماهير الطلاب تتوجه من الحرم الجامعي إلى الثكنات. بمجرد أن بدأ القادة يلقون خطاباتهم ، جاءت قوات الشرطة من جهة النهر ودخلت الثكنات مدججة بالأسلحة والدروع. عندما اقتربوا من مكان اللقاء شرق داخلية سوباط ، هاجمهم الطلاب المسلحون بالقضبان والعصي. تراجعت القوات مختبئين خلف المرفق الطبي لثكنات السكن الداخلي وبدأوا في إطلاق النار عندما تكالبت عليهم جموع الطلبة. أذكر أن صديقى أحمد الشايقي الذي كان إلى جانبي أخبرني والطلاب الآخرين الذين كانوا يقفون على عتبات داخلية سوباط بأن الشرطة كانوا يطلقون رصاصات مزيفة وصرخ الطلاب قائلين: “دعونا نخرجهم من مخابئهم”.
حالما نزل الطلاب الآخرون لدحر العسكر اشتد إطلاق النار. بدأ بعض الطلاب وكأنهم قد تأثروا من جراء إطلاق الرصاص ، لكن الشايقي كان لا يزال مقتنعاً بأن الرصاص لم يكن حقيقياً. فجأة شعرت بأننى والشايقي نقف وحدنا في مواجهة القصف بينما تراجع البقية إلى المكان الأعلى في حالة من الفوضى والهستيريا محذرين بأن وابل الرصاص الذي كان يحلق فوق رؤوسهم كان من النوع المميت. تسلل الجميع إلى الجانب الآخر ليعثروا على برك من الدماء والكثير من الدمار. الوابل الأول من الرصاص أصاب على الفور القرشي فأرداه قتيلاً. تم الإسراع بنقله إلى مستشفى الخرطوم أملاً في إنقاذ حياته. توجهت أنا والشايقي إلى داخلية النيل الأزرق حيث كنت اسكن في الغرفة رقم 13 مع الاخ حسن عابدين (لاحقاً الدكتور حسن عابدين ، السفير السوداني السابق في لندن). أردت تغيير قميصي الذي كان غارقاً في الدماء بسبب جهودي في نقل المصابين. في طريقنا التقينا الأستاذ الحسن أحمد الحسن، المشرف على الرياضة بالجامعة (تُوفي رحمة الله عليه لاحقاً في حادث غرق في أمريكا) الذي أعلن وفاة القرشي وطلب منا أن نأتى معه إلى مستشفى الخرطوم في سيارته. ركب الجميع في سيارة الحسن (من نوع موريس ماينر) التي اكتظت بما يفوق قدرتها المعتادة مع انضمام المزيد من الطلاب إلينا. لم تكن قوات الشرطة تسيطر على المستشفى بعد ،الأمر الذي سهل علينا التنقل في أنحائها. استطعنا بعد فترة وجيزة من البحث العثور على مكان جثة القرشي. كان مسجياً في غرفة في البلوك الأول من مباني المستشفى المواجهة للبوابة الشمالية. استطعت التسلل إلى داخل القاعة ووجدت القرشي وحيداً وغير مغطى. ولاحظت أن رصاصة أصابته فوق الحاجب الأيمن وخرجت من مؤخرة الجمجمة.

عبدالله مسعود
دبي
٢١ أكتوبر ٢٣

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد