صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

حَسْـكَا.. نجـمٌ عَلى طَـريقته

0

صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد

حَسْـكَا.. نجـمٌ عَلى طَـريقته

كتب صلاح أحمد إبراهيم في مقدمة أحد دواوينه الشعرية (حين أغمض عيني للمرة الأخيرة سأغمضها وأنا أهمس لنفسي لقد اختار صلاح أن يقصر في حق نفسه من أن يقصر فيما رآه واجبه.. من أن يقصر فيما رآه حق شعبه وحق وطنه).
ومحمد محمود (حسكا)، لم يقصر إلا في حق نفسه ـ أغمض عينيه وحيداً في شقته ورحل بعيداً عن الوطن، كان مهموماً بالوطن ومسكوناً بالخير، حتى ابتسامته كانت لا ترتسم على وجهه إلا من أجل فرحة غيره، كان يفرح للغير، أما هو فقد ظلّ يحمل معاناته في صبرٍ، بدون شكوى أو ضجر.
كان مثل عود الصندل يحترق من أجل أن يُعطِّر غيره ـ كان شمعةً تحترق ويجد في احتراقه راحة.
اللهم أرحمه وأحسن إليه، فقد جاء اليك عبدك محمد محمود وهو يحمل حب الناس له.
رحل المذيع والإعلامي اللامع محمد محمود حسكا بصورة تؤكد أن السودانيين لا يعرفون العيش بعيداً عن أوطانهم ـ هم مثل السمك إذا اخرج من المياه مات، وهكذا نموت بعيداً عن الوطن،. وهكذا وُجد (حسكا) في شقته بالفيصل، عندما افتقده الأصدقاء، وقبل ذلك افتقدته زوجته فوجوده في شقته ميتاً ـ ربما آخر عهد له بالحياة أن صلى صلاة الجمعة التي علّق على خطبته في صفحته على “فيس بوك” ومات بعد ذلك ليكتشف الناس موته يوم الاثنين.
بعيداً عن الوطن، حتى موتك يكتشف بعد حين.
ومحمد محمود يدفع ضريبة الوطن وهو ميت.
الغربة لا تقتل بصورة مباشرة، إن كانت تفعل ذلك فهي أرحم من أن تغتالك رويداِ رويدا.
اللهم أرحم عبدك محمد محمود وأحسن إليه، واجعل بفضلك ورحمتك مثواه جنة عرضها السماوات والأرض.
حسب ما نقل، فإنهم وجدوا محمد محمود ميتاً في هدوء وبكامل أناقته، لم يتخل عن تلقائيته حتى وهو يرحل.
أراهن أنه تقبّل قدره برضاء وسلّم روحه لبارئها برضاءٍ، لذلك هو يحصد من الناس كل هذا (الرضاء)، وهو شئ لا يخرج من فراغ ـ السودانيون لا يحبون إلا مَن يستحق حبهم.. عندهم فراسة، يعرفون الطيب من الخبيث وسط الملايين.
وقصة حسكا تبدأ بفجائيته التي اعتدنا عليها ـ فجأةً انتبه أصدقاء محمد محمود والناس بعد ذلك لغيابه، ولمحمد (شغفٌ) يملأ الحياة ضجيجاً، هو يشغل كل المساحات والفضاءات والمنابر والقروبات بحضوره، خصّـه الله بهذا الحضور وإن غَـاب.
وهو رجل (فجائي)، ترك كل أموره تحدث (فجأة)، لا يرتب لها ولا يخطط.
الكل كان يسأل عنه ولم يطل السؤال، وخلال ساعة اكتشفوا موته ـ قد يكون الله سبحانه وتعالى أراد أن يخفف علينا وجع رحيل، بأن نفرنا جميعاً نسأل عنه.. وقد يكون ذلك لطفاً بقدر رحيله المُــر.
كأن الأقدار أردت أن تمهد عن رحيله بأن يفتقده الأصدقاء، قبل أن يكتشفوا موته.
هنالك أناسٌ تكتشف بعد رحيلهم أنك كم كنت تحبهم، وكم أنت مفتون بهم، للأسف يرحلوا قبل أن يعرفوا محبة الناس لهم، فكل من كتب عن محمد محمود كتب عنه كصديق له ـ وبدأ رثاه له بكلمة يا صديقي ـ كان صديقاً للجميع، بمختلف المسارات والتيارات، كان قريباِ منا جميعاً، أدركنا بذلك عندما وجدنا أنّ جزءاً أصيلاً منّا يرحل، إننا نفقد بعض ما فينا، لا أدري ماذا أقول وكيف أوصف الحال؟ ولكننا نفقد شيئاً منا ونقبر شيئاً فينا، لذلك نحن نعزي أنفسنا، لأنّ المصيبة مصيبتنا كلنا.
حقّق محمد محمود نجوميته بطريقته وباسلوبه الخاص، دون مساعدة من جهة أو سلطة أو إعلام ـ شَـقّ طريقه بنهجه هو، فرض علينا ذلك وأصبح له مدرسة ونهج في التقديم، قد نكون لم نشعر بذلك وهو بيننا، ولكن الآن ندرك بقيمته الإعلامية، ونحترم تجربته المهنية، ونعترف أنه كان علامة فارقة في التقديم.
أتذكّـره في صباحات قناة النيل الأزرق، كان بتلقائية تزاحم الصباح إشراقاً، يستقبل مكالمات المشاهدين، يُحدِّثونه ويُحدِّثهم في كل شئٍ، فهو لا يبالي، ينتقد ويصحح والمخرج يضع يده على قلبه وهو جاهز بأن يقطع كلامه بأغنية إذا تجاوزت صراحة حسكا الخطوط الحمراء، كان لا يهتم بذلك يقول ما يراه ويذهب.
أتذكّر جيداً حلقة قدمها محمد محمود في إحدى صباحات أف أم على قناة النيل الأزرق بعد أن عاد من الحج، فكان كما ولدته أمه.
أتذكّر ثنائيته مع صفية محمد الحسن في أقوال الصحف وتعليقاتهما الذكية.
أتذكّره في برامج كثيرة قدمها في قناة النيل الأزرق ـ إذا عُدنا لها الآن سوف نضعها كنماذج تدرس في إدارة الحوار.
أزمتنا أننا في السودان لا نعترف بالفضل إلا بعد رحيل صاحبه.
لا نعرف قيمة الشئ إلا بعد أن نفقده.. لقد كان محمد محمود كنزاً حقيقياً، ولكن اكتشفنا ذلك متأخراً.
على موجات الكثير من الإذاعات، كان محمد محمود يبدع ـ هو مثل الفراش تجده في كل الحدائق والبساتين ينثر الفرح والمرح.
أجمل ما في محمد محمود إلى جانب حبه للبسطاء والغلابة، هو أنه كان يحب الإبداع والمبدعين، وكان يحب وطنه لدرجة الجنون.
كان مختلفاً، لذلك كل شئ منه كان يخرج مختلفاً.
بعد جيل طارق كبلو الذي حقّق نجومية طاغية في الإذاعة، جاء الطيب عبد الماجد يجمع بين القبول والثقافة العالية والأريحية في الاستماع له، وجاء حمزة عوض الله بنهج فلسفي عميق، وحقّق نجومية أخرى، يحترمها الجميع، كان ذلك في تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، بعد هذه الأسماء جاء محمد محمود حسكا بدون ضجيج وبدون تعب وفي زمن أصعب، فحقّق نجوميته بتلقائية مُطلقة، وصل إلى نجوميته بالبساطة، وكان محمد محمود جزءاً أصيلاً من المشاهد أو المستمع الذي يتابعه.
إذا تابعت أي حوار بين محمد محمود رحمة الله عليه وبين ضيفه أو المشاهد، ستجد أنّ محمد محمود كان يفعل ذلك بحب، كان يقدم لنا ذلك بدون كلفة أو تعب، لذلك كل من حاورهم حسكا أصبحوا أصدقاءً له ـ هذا شئ أجزم به، واذهب أبعد من ذلك وأقول إنّ كل من تابع محمد محمود أصبح صديقاً له، فهو يملك قدرة خارقة في خلق الصداقات وصناعة الحب والترويج له.
محمد محمود هو المذيع الذي جعل (المشاهد) صديقاً له ـ لقد كنا كلنا أصدقاءً وأقرباءً له من الدرجة الأولى بسبب فقط مشاهدتنا له.
لا كلفة في نقاشاته ولا جدال في حواراته، هو امتلك موهبة عندما استرجعها الآن، لا أعرف من أين جاءت؟ وكيف كانت؟ هي موهبة ربانية، لذلك أحَـبّـه الناس.
الآن أقول بثقة إنه كان (عبقرياً)، عرف كيف يصنع الإلفة بينه والمشاهدين.
والسودانيون لا يحبون من فراغ ـ عندما يحبوا شخصاً ويجمعوا عليه، أعلم أن ذلك الشخص (عبقري)، وأنّ دواخله جميلة، وأنّ نفسه شفافة وحواسه مرهفة.
حسكا كان كتلة من النقاء والطيبة والصفاء لذا صعد، كان إنساناً حقيقياً، لا يتجمل ولا يكذب من أجل ذلك.
عاش محمد محمود حياته ببساطته التي عُرف بها ـ كان يستقل المواصلات، رغم أنّ رعاية أي برنامج من البرامج التي قدّمها كانت تكفل له أن يمتلك عربية خاصة.
كان بعيداً عن الإعلانات والرعايات والعلاقات الخاصة، لذلك كان بين الناس في المواصلات والأسواق.
مع نجوميته فضّل أن يكون من غمار الناس، ليعبر عنهم بصدق أكثر.
كان صادقاً ـ لأنه كان بين الناس، حيث ظل يركب شماعة في المواصلات العامة، ويسكن بالإيجار متنقلا ًمن شقة إلى أخرى في حالة ترحال دائم ـ حتى عندما جاء مصر قرر أن يسكن في حي شعبي بالقاهرة.
هكذا كان محمد محمود ـ صادقاً في كل شئ.
متفقون نحن كلنا على محبتنا لعبد العزيز العميري، ومتفقون كلنا على محبتنا لمحجوب عبد الحفيظ، ومصطفى سيد أحمد ـ ومتفقون على محبة محمود عبد العزيز، ومتفقون على محبة محمد الحسن سالم حميد، وانضم إليهم الآن محمد محمود حسكا فهو من نفس العجينة ـ متفقون كلنا على حبه.
إنني انظر إلى ثروات محمد محمود، فلا أجد مالاً ولا جاهاً، عاش فقيراً ومات فقيراً بسبب عفته، ثم انظر إليه بعد رحيله فأجده أغنى الناس، فماذا كان يريد حسكا أكثر من هذا الحب.
لقد رحل محمد محمود ـ فجأةً انتبهنا إلى أنه لم يعد موجوداً بيننا ـ فجأةً افتقدناه، لكن وجدنا محبة الناس له عزاء لفقدنا هذا.
ثم علمنا أن الانقياء، هم ما ناس دنيا ـ هم سريعاً ما يرحلون.
لقد كنت اسمع كثيراً من يقول عن شخص رحل من هذه الحياة، معزياً نفسه الزول دا ما زول دنيا، وقد أدركت معنى ذلك الآن، محمد محمود ما زول دنيا.
هذا الصراع، وذلك التنافس الذي أصبح في أمور الدنيا، لا يشبه محمد محمود، هو لا يطيب له أن يشاهد كل هذا الوجع في عيون الناس.
لقد رحل حسكا بعيداً عن الوطن ـ ماذا بعد ذلك؟
أجزم بمعرفة جيدة لمحمد محمود أنه ما كان يريد في هذه الحياة غير أن يرى وطنه بخير.
لم يكن يطمع في أكثر من أن يرى أبناء الوطن في كامل الصحة والعافية حتى وهو يعاني ويحمل جسده النحيف المرض.
لم يكن يتمنى لكم غير الخير.
لذلك أعيدوا الوطن إلى أهله ـ أعلم أنّ كثيرين بعيداً عن الوطن لا حياة لهم.
الله أرحم محمد محمود واغفر له، وأسكنه فسيح جناتك، فقد كان يعمل من أجل إسعاد الغير.
اللهم تقبله قبولاً حسناً ـ أحسن إليه وأكرم مثواه.
اللهم. أحفظ السودان وألهمنا الصبر والسلوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

متاريس
ما في كلام تاني.

ترس أخير: اللهم أرحمه.. أرحمه.. أرحمه يا رب.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد