وادٍ غير ذي زرع والريف الإنجليزي..!
أبوعاقله أماسا
* بعد اندلاع هذه الحرب اللعينة بدأت أشعر مرة أخرى بمميزات السكن الريفي في الأطراف والضواحي وبدأت أتذكر حكايات الريف الإنجليزي والفرنسي والسويسري في الأدب الأوربي، وكل مرة اوسع خيالي كثيراً وأتمنى لو أنهم منحوني عشرة فدان بدلاً عن ٣٠٠ متر.. ليس بهدف بناء مخطط سكني أستجلب فيه الأسر المنغلقة لتسكن معي في شقق أو فلل، بل لأنشيء منها مزرعة أنتج فيها الخضروات والفواكه والألبان واللحوم مع سكن نموذجي وأجواء صحية للأبناء بدلاً من زحام العاصمة وضوضاءها، وكل مرة أعود من رحلة الخيال الجامح إلى واقع معقد، ليس على المستوى الشخصي، وإنما على المستوى الوطني الذي تقيده فكرة الوطن المهدور والإنسان المستهلك وغير المنتج، فالحكومات المتعاقبة تصر على أن تسجن الشعب في زنزانة الإستهلاك ليكون عالة على غيره من الشعوب وضحية للحروب والمجاعات.
* موقع سكننا هو الأخطر من بين الأحياء والحارات الشمالية من الثورة، إذ أنه يتاخم المطار الحربي ومحاط بكماشة من الوحدات العسكرية، في الجنوب الشرقي معسكر جبل سركاب، وفي الجزء الشرقي والشمال الشرقي وحدات أخرى مثل المساحة العسكرية والشرطة العسكرية والسجن الحربي والفرقة التاسعة المحمولة جواً والدفاع الجوي، ثم تقانة كرري العسكرية والكلية الحربية ومصنع الصافات لإسبيرات الطائرات وبعض الصناعات الدفاعية، إلا أن الموقع نفسه قد تكون الأكثر أمناً من غيرنا تحديداً في ظروف هذه الحرب وهو ما اكتشفناه أخيراً.. فمنذ الــ(٧٢) ساعة الأولى منها، واستلام الجيش لمعسكر جبل سركاب وهو المعقل الأوحد للدعم السريع في منطقة كرري أو (وادي سيدنا العسكرية) بذلك العمل البطولى من أفراد الفرقة التاسعة المظلية، أصبحنا نتابع ما يحدث عبر مصادرنا الصحفية من بعيد ولا نعايش إلا آثارها وتبعاتها الأسيفة عبر زملاءنا وأصدقاءنا ومصادرنا ممن يعيشون في الأحياء، التي اجتاحتها قوات الدعم السريع، وعن نفسي لا أحسن فيهم الظن إن كانت من رحم القوات المسلحة أو سقطت من السماء مع قطرات المطر، وإعتقادي المبني على تجارب ومعايشات وبعض ما درسته في العلوم السياسية أن الدولة الحديثة لا تبنى على أفكار قبلية وعنصرية وجهوية لأنها ستكون ببساطة على حافة الإنهيار والإنقسامات، خاصة إذا كنا نتحدث عن السودان بتناقضاته الإجتماعية التي يتجاهلها الناس، فقليل منا يعرف أن الرزيقات أنفسهم كقبيلة كبيرة تنقسم إلى مجموعة قبائل صغيرة وآل دقلو لا يمثلون إلا فئة قليلة، ومن زاوية أخرى أرى أنه من بين هذه القبيلة عشرات المؤهلين لحكم السودان من قيادات وتكنوقراط وحتى عسكريين لا تنقصهم الحنكة، ولكن عبر المعيار القومي الذي يناسب السودان وليس الجهوي والعنصري، فعندما تردد إسم الوليد مادبو من قبل كمرشح لمنصب قيادي لم يتحدث الناس عن قبيلته وإنما عن مؤهلاته الأكاديمية وقدراته الفكرية.. وكذلك عندما رشحوا البروفيسور هنود أبيا كدوف لخلافة حمدوك كان إختياره لسيرته الكبيرة والناصعة كخبير في القانون الدولي وأكاديمي نابه وقيادي فذ، وليس لأنه من جبال النوبة أو سلارا.. ورغم أننا نصدم في النخب السياسية كل مرة عندما تحاول وضع قالب قبلي للمناصب القيادية في الدولة إلا أنني أؤمن بحاجتنا إلى معايير قومية تعتمد الكفاءة فقط لإختيار من يحكم السودان، ولا يهم من أي قبيلة هو طالما هو سوداني بالميلاد..!!
* المهم أننا سكنا في وادي غير ذي ذرع، عند الوحدات العسكرية، فاندلعت الحرب وشارفت الآن على الشهرين ونحن حبيسي هذا الوادي في كنف الجيش السوداني، لم نر فرداً واحداً من الدعم السريع وهذا ما كنا نتمناه.. ومع المعاناة المضاعفة والشح المفروض علينا بسبب ظروف الحرب كانت قدراتنا في إمتحان حقيقي لإختبار (أساليب البقاء) ومحاولة التأقلم مع الظروف والإستمرار في الحياة بشكل ليس طبيعي ولكنه أقرب من ذلك، فنحن مطالبون بالتكيف مع الندرة في كل شيء.. لا مال ولا مؤن غذائية ولا مجال للتحرك بحرية للبحث عن الحلول..!
* إكتشفت أن كل جيراني او نسبة فوق الــ(٩٥٪) تعود أصولهم إلى مناطق شدة سبق لها وأن تذوقت الحرب والمعاناة والنزوح، ومعظم الناس هنا لها تجارب مع هؤلاء الهمج، فمعظمنا من مناطق دارفور وكردفان وعلى أقل تقدير نحفظ عشرات الحكاوي والخيبات عن الجنجويد وأفعالهم، وقد لاحظت أن الناس هنا متفقين على أننا أفضل من غيرنا.. وبعض الناس يقولون أننا لن نسمع ولن نشاهد أسوأ مما شاهدناه في دارفور وكردفان.. لذلك سوف نبقى هنا ولن ننزح مرة أخرى..!
* من فوائد الحرب ــ إن كانت للحرب فوائد ــ أننا وجدنا وقتاً لتشكيل مجتمعنا الصغير في الحي، وأعدنا بنيان علاقاتنا مع الجيران على أساس تكافلي مميز، إقتسمنا فيه (كيس الملح) وتبادلنا صحون الملاح، وجالسنا بعضنا تحت الشجر لنتناول الفطور الجماعي كل يوم، ونستمع إلى بعضنا، ولننتقل إلى المسجد وتتسع الحلقات كل يوم، ومع مرور الوقت تزداد قطعة الفسيفساء هذه أناقة وجمالاً عندما نكتشف من بيننا أصحاب تجارب وقدرات حقيقية، فنستمع إلى الحكايات والروايات، خاصة وأنهم يمثلون كل بقاع السودان.. فكانت للحرب مساحة في الأسمار.. وتبادل المعلومات عنها وربطها بما حدث في السابق في حروب الجنوب ودارفور وجبال النوبة..!!
في الحلقة القادمة سأسلط الضو على الشخصيات والمواقف الطريفة وقصص وحكايات عن تحايل الناس لكي يبقوا على قيد الحياة..!!
… نعود ونواصل