صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

عندما تَصبح (دفْـــرة العَربيّة) أسلُوب حَياة

79

صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد

عندما تَصبح (دفْـــرة العَربيّة) أسلُوب حَياة

مَـرّ علينا زمنٌ نسينا فيه شكل الحياة، ونسينا فيه تفاصيلها ـ بل نسينا حتى عناوينها الرئيسيّة.. في البدء شارع البيت بقى يروح منّنا، ثُمّ الباب، ثُمّ أصبح بعد ذلك البيت ذاته يروح.
نسينا جلابية الجمعة، وصفّ العيش، وفتّة البوش، وتمرين الهلال، وتحويل الرصيد.. التفاصيل الصغيرة هي التي تعطي لحياتك الطعم، فلا تهملها.. وبعيداً عن زخرف الحياة الدنيا يقول عز وجل (…. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (76)) مريم.
الفطور قبل الغداء أم العكس هو الصحيح؟ الصاح هو الصاح، أم الصاح أصبح هو الغلط؟
في هذا الزمن عندما تتنفش وتغلط في زول، بتحس بي نفسك.. تحس بأنك جايب السمكة من ديلها.
العيب عيب؟ أم أنّه أصبح من دواعي الفخر والاعتزاز؟
اللون الأبيض أمازال أبيضَ، أم أصبح مضروباً؟ وخاطف لونين، فكل شئ أصبح بوجهين.
والسُّكّر والبُن واللبن، والباقي الذي يقصد دائماً سيد الدكان أن يرجِّعه ليك (حلاوة لبان)، أمّا الكمساري فيقصد مع سبق الإصرار والترصُّد أن يجعلك تنساه. ومع إنّك بتخرج من البيت عازم على أن لا تنسى الباقي مع الكمساري، بترجع البيت وإنت ناسيه.
عند الكماسرة قُدرة فائقة على أن يجعلوك تنسى الباقي.
الفجر فيه تشرق الشمس وتغيب بعد ذلك دون أن يشعر بها أحد. بقينا ما عارفين، الساعة الثالثة عصراً هل فعلاً بقت خمسة إلا ربع.
الأعداد الزوجية مازالت تقبل القسمة على اتنين أم حدث بينهما طلاق؟
السمك هل هو من ذوات الثدي أم من الطيور؟
الباسطة بقت من الزواحف، الا تزحف إليها زحفاً وتستعمل الساتر.
الأسبوع فيه كم جمعة؟
مرّت علينا الأشياء ونحن مثل أصحاب الكهف.
نحن في فجوة من كل شئ.
الشمس.
والكهرباء.
والمويه.
والناس.
وكلبنا باسط ذراعيه بالوصيد.
مرّت علينا أيامٌ، قدر ما نضربها ونقسمها بطلع لينا فيها كسور.
نطلع بالواحد.. يشفشفوه.. نرجع يتعذّر علينا الطلوع… في ضرب برّة.
الموز من الفواكه أم من قوانين سير حركة المرور؟.. ألم تسمعوا بـ(شيلها مُـوزة)؟ هذه المادة أعتقد أنها استقدمت واستمدت من قانون حركة المرور الهندي!!
المنقة منقة أم اتبوصلت؟
“في ـ من” حروف الجر؟ أم لقت ليها واسطة وأصبحت من بين الأسماء الخمسة؟
حروف النصب بتنصب بالفتحة أم بالشفشفة؟
“أخوات كان” ـ اتقسمن الورثة أم المشاكل والخلافات بينهن أوصلهن للمحكمة؟
أخوات إنّ” ـ طلع ليهن أخ غير شقيق عصبهن؟!
باريس عاصمة فرنسا، أم هي إحدى قرى الجزيرة؟
الموبايل جهاز اتصالات أم جهاز للكشف عن ضغط الدم؟
سوف يأتي زمن يكون جهاز الموبايل فيه جهاز لكشف ضغط الدم والسكر.. بما أنّ الموبايل أصبح هو آلتك الحاسبة ومكتبتك وتلفزيونك وصحيفتك وكتابك وذاكرتك ومحفظتك وبنكك، إلى جانب ما يقوم به في جانب الاتصال من مكالمات وفيس وواتس.
الطيب صالح كتب قبل أكثر من ربع قرن مقاله الشهير (من أين جاء هؤلاء)، وهو سؤال ظل يطرح كلما مَـــرّت البلاد بمثل هذه الظروف. وهي ظروفٌ مُتكرِّرةٌ أضحت من طبيعة حياتنا لا نخرج منها إلّا في الاستثناء.
الطيب صالح طرح أسئلته:
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟
يا ريت يا الطيب لو وقفت على السماء!! يا ريت لو وقفت على الأكاذيب!!
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين؟ يريدون الهرب إلى أيِّ مكانٍ، فذلك البلد الواسع لم يعد يتسع لهم.
يا الطيب الناس بقت تطلع بالحدود.. من كل الاتجاهات.. تهريب.. زي الشطة والكركدى والقونقليس ـ مطار الخرطوم أصبح منطقة ضرب نار.
والطيب يسأل:
هل مازالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذُعــر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خــراب؟
الطيب صالح عرفها من زمان، كشف سرها ولكنهم لا يفقهون.. المُقدِّمات كانت واضحة أنها سوف تؤدي إلى ذلك.
والطيب يقول:
جامعة الخرطوم مُغلقة، وكل الجامعات والمدارس في كافة أنحاء السودان. الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينوِّمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكيةً في ثيابها البالية، لا حركة في الطُـرقات.. لا أضواءٌ من نوافذ البيوت.. لا فرحٌ في القلوب.. لا ضحكٌ في الحناجر.. لا ماءٌ، لا خُبزٌ، لا سُكّر، لا بنزين، لا دواءٌ. الأمن مُستتب كما يهدأ الموتى.
الخرطوم يا الطيب يا ريت لو كانت في ذلك البهو طفلة ينوِّمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب.. تنام منذ العاشرة، تنام باكيةً في ثيابها البالية. الخرطوم بقت عجوز شمطاء، تنام وهي قاعدة.. تنوم وصحوتها أضحت (غفوة) وليس العكس.
الخرطوم لو شفتها يا الطيب ما بتعرفها، شوارعها خالية، وأحياؤها مُظلمة، وثقافتها بقت مُنحصرة في “شفشف واجغم وعَــرِّد”.
والطيب يسأل والإجابة لا تحتاج إلى كثير عناء:
من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهب من الشمال إلى الجنوب؟ أما رأوا بروق الصّعيد تشيل وتخُت؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي وأحمد المصطفى؟ أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسوا الأشواق القديمة، ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذاً لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنهم مُسخّرون لخرابه؟
ديل يا الطيب أمهاتهم أرضعتهم (بنزين) وموية نار، غشا وليس فراسة، ومدائح حاج الماحي وود سعد وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي وأحمد المصطفى، أكيد بفتكروها اسبيرات عربيات فهم لم يسمعوا إلّا لصوت الدنانير وطقطقة البنادق.
نحن قمنا على مدائح أولاد حاج الماحي.. كنا عندما نسمع الوالد يترنّم بينه وبين نفسه بمقطع من مقاطع مدائح حاج الماحي، نتشجّع ونطلب ما نشاء من الوالد وكنا لا نرد، حتى لو كان طلبنا هذا في آخر الشهر والحالة واقفة.
كنا نسمع (شوقك شوى الضمير بطراك مناي أطير.. أنا حبو من صغير بريدك يا البشير) كنا بنشوف الشوق حايم في البيت مع هذا المقطع.. وكان الشوق بنسمع ليه صوت.
وعندما يصل الوالد إلى (كرقوس والمغاوير.. بقروسي والكمير)، كان الوالد يذوب وجداً في هوى بقروسي.
وأولاد حاج الماحي يضربون طارهم فيطرب وهم في حالة من التلاشي الوجداني الجميل:
شئ لله يا أهل الدايرة
يا الفي الكون أسراركم سايرة
أرخوا السر في السحرة الغايرة
خلوا الدار التصبح نايرة
زول ما قام وشبّ على مدائح ود حاج الماحي شـن طعمه!! بيناتنا كنا بنعتبره غريباً.
الدنيا كانت بخيرها والناس كان فيها رحمة لأنها اتربت في الخلاوي ونشأت في المساجد.
الطيب صالح كان بيسأل، ونحن بعد الذي شاهدناه بنسأل بدورنا هل التاء المربوطة مازالت مربوطة؟ واللّا فكُّوها مع التفلتات الأمنية التي حدثت.
والحنين في أغاني النعام آدم وإبراهيم موسى أبا وصديق عباس وصديق أحمد ووردي وحمد الريح هل مازال حنيناً واللّا سيّسُوه.
شعر صلاح أحمد إبراهيم والدوش وصديق مدثر مازال باقياً أم شفشفوه؟!
بنت الجيران لسه بنت الجيران أم أنها بقت غريبة وما في زول بيضع ليها اعتبار؟
والإخوان إخوان أم أنهم أصبحوا (تسعة طويلة)؟
من أين جاء هؤلاء؟ يا الطيب الناس ديل ما لعبوا (الدافوري) إتعاركوا فيه واتغالطوا ورجعوا في نهاية اليوم وكأنّ شيئاً لم يحصل بينهم.
ما أكلوا عصيدة الدُّخن ولا بعرفوا مُـلاح الورق.
الناس ديل ما شجّعوا الهلال وما دخلوا إستاده؟
الناس ديل ما قرأوا في كتاب المُطالعة مريم الشجاعة، وما وقفوا عند كلب عبد الجليل؟
ما رقصوا ونسوا روحهم وقت يسمعوا زيدان إبراهيم يغني لفراش القاش.
بعرفوا فراش القاش والطير المهاجر والطير الخداري وحمام الوادي؟ أم أنّ هذه الأشياء ما عندهم ليها وقت.
ما دكُّـوا الحصة الأخيرة؟ ألم يذهبوا للمدرسة وهم ما عندهم حق الفطور؟
ما دقّتهم مطرة؟ ووقعت فيهم حيطة، ما حصل باتوا القَـــوَا.
من أين جاء هؤلاء؟
من حق الوطن أن يُوجِّه علينا كلنا هذ السؤال.. كلنا مُقصِّرين في حقه، وكلنا جينا من أقاصي الدنيا، وأي مجموعة تتجنّى على هذا الوطن من حقنا أن نقول عنهم من أين جاء هؤلاء؟
ونحن أول هؤلاء.
عمنا البشمعندي كان عنده عربية، وكانت تلك العربية ما بتدوِّر إلّا إذا دفروها.. إتعوّدت العربية على هذا الوضع، عشان كدا كان كل ما تشوف ناس بتقيف.. وعمّك البشمعندي كان بيستغل أي تجمع في دفر عربيته.
كنا بنشيل هَـمّ الصباح.. عشان البشمعندي كان بتصيّد الناس، كل ما يشوف ليه طالب أو موظف طالع من بيته متخفياً بثبِّته وبجيبه لعربيته عشان يدفرها.
عاوز يضمن أكبر عدد من الناس للدفرة.. كلما كان عدد الناس كبيراً، الدفرة بتكون أقوى.
الموضوع دا كان كاسر معانا جنبة، فقد كنا نجد مشقّة كبيرة في دفرة عربية عمّنا البشمعندي. لذلك قرّرنا نحن في الحلة أن نعمل حملة تبرُّع ونجيب (بطارية) جديدة لعربية البشمعندي، وقد نجحنا في الحملة وجبنا البطارية.
للأمانة الأسبوع الأول ارتحنا من موضوع (الدفرة) وبقينا ننوم لي عشرة، ولكن أول يوم في الأسبوع الثاني نزلنا دفــر.
الموضوع دا أغضبنا شديد.. كيف نجيب البطارية وبرضو ندفــر العربية؟!
المشكلة ما في البطارية.
عملنا اجتماع وراء اجتماع.. وكوّنا لجنة وانبثقت منها لجانٌ وقرّرنا نستنجد بأبناء الحي في الخارج، لأنّ الموضوع أكبر من قُدراتنا، نحن اخرتها عندنا نلم حق البطارية وكنا قد قرّرنا في آخر اجتماع أن نغيِّر العربية بعد أن غيّرنا البطارية والحال في حالو.
أبناء المنطقة في الخارج ما قصّروا، من الخليج وفي أوروبا وفي أمريكا أرسلوا مساهماتهم، فقد كان البشمعندي عنده جمائل على الجميع.. ونحن كنا بنسدِّد تلك الجمائل (دفرة).
في خلال شهر اشترينا العربية ـ جديدة كرت.
شهر كامل ارتحنا من دفرة الصباح، واعتبرنا موضوع الدفرة انتهى بشكل نهائي وبقينا نمشي في الشارع نضرع، وصدورنا مفتوحة.
أول يوم في الشهر الجديد، جاءنا عمّك البشمعندي من الصباح.
في شنو يا حاج؟
قال عاوز دفــرة.
يا حَـــــــــــــــاج.
اجتمعنا وانفضينا واجتمعنا تاني وكانت الاجتماعات ساخنة، وأحياناً كانت الاجتماعات تنفض قبل أن تنتهي بسبب الخلافات.
كانت مشكلتنا الكبرى، قبل موضوع الدفــرة، هي ماذا نقول للمغتربين وأولاد الحي البرّه، نقول ليهم بعد العربية الجديدة رجعنا تاني ندفــر العربية!!
نودي منهم وشّنا وين؟ ونحن أكلنا لحمهم بالتبرعات.
في واحد من الناس الذين انضموا حديثاً للدفــرة وقف في أحد الاجتماعات، وقال يا جماعة يبدو أن الدفــرة عندكم أسلوب حياة.. كلنا قعدنا نطنطن، هو واصل في كلامه وقال: إنتو غيّرتوا البطارية ما نفعت، غيّرتوا العربية ما نفعت، يبقى المشكلة إما فيكم إنتو البتدفــروا العربية أو في السّوّاق.
كلنا بصوتٍ واحدٍ، قلنا ليه ونحن ذنبنا شنو؟ نحن ما في إيدنا حاجة، قالوا لينا ادفــروا دفــرنا، والدفــرة في العالم كله واحدة.
الزول عاين في السقف ونشّن على المروحة، وقال لينا خلاص كدا يعني المشكلة في السّوّاق.
قلنا ليه السّوّاق؟
قال أيوه السّوّاق.
معقولة المشكلة في عم البشمعندي.. 30 سنة ونحن بندفـر وما عارفين المشكلة وين؟
يبدو فعلاً أنّ مشكلتنا في السّوّاق.
نحن قدرنا غيّرنا البطارية، وقدرنا غيّرنا العربية، هل يمكن أن نقدر نغيّر السّوّاق.
ولو عاوزين نغيِّر السّوّاق نقول لأولاد البلد في الخارج شنو؟
نقول ليهم عاوزين لينا سوّاق جديد.. صراحة في موضوع تغيير العربية ما قصّروا، لكن في تغيير السّوّاق ما عارف يقولوا شنو؟
واحد من الناس الكبار في السن قاعد في الكنبة الأخيرة وقف وعاين في الاتّجاهات الأربعة وعاين برضو فوق.. في المروحة، وقال بصراحة يا جماعة أنا في البلد دي بدفــر من سنة 56، وغيّرنا من ذلك التاريخ إلى الآن ثلاثة سوّاقين، وعشرات العربات، وفي كل مرة كنا بنغيِّر السّوّاق كانت المشكلة بتظهر لينا في حِتّة تانية.
بعضنا قام وقال للرجل حِتّة تانية وين يعني؟ إنتو مالكم عاوزين تجنِّنونا.
الراجل قال بثقة أكبر، المشكلة في العقلية، صوته ارتفع زيادة وقال المشكلة في (النظام).. المشكلة يا عالم في السيستم.
كلنا اتلفتنا نحو هذا الرجل، الذي وقف يُحدِّثنا عن (السيستم)، رغم أنّـه بلغ من الكبر عتيا.
قلنا يبدو أنّ موضوع (الدفــرة) دي بدخِّلنا في مواضيع شائكة، عشان كدا أحسن نفضي الاجتماع ونبقى دافــرين.
واصل الرجل حديثه بانفعال أكبر، وقال للأسف الشديد نحن لسه شغالين بسيستم حبل الغسيل.
اتلفتّ نحو الرجل الذي يجلس جواري وقلت ليه (سيستم حبل الغسيل) دا أول مرة أسمع بيه.
لو جابت ليها سيستم حبل غسيل أحسن ندفــر ساكت!!
…..
متاريس
سوف أظل أنادي وأكرِّر بأن يحسم الهلال تأهُّله على حساب الأهلي من القاهرة.
فليكن إستاد القاهرة هو شاهدنا الأول على ذلك.
مواضيع كثيرة وملفّات مُهمّة يجب أن نتحدّث ونكتب عنها قبل مُـواجهة الأهلي.
في حاجات لازم نقيف عندها.
أجّلت حديثي عن الهلال والأخطاء الفنية التي ظل يقع فيها في الفترة الأخيرة إلى ما بعد مشاهدة مباراة الزمالك والأهلي.
…..
ترس أخير: اللّقَـب أصـلو ما بعيـد.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد