صَابِنَّها
محمد عبد الماجد
فلُورَان وقِطَار السّاعَة السّادسة مَسَاءً
لا أشعر بالحرج، ولا أحس بالضيق من أن أكرِّر قولي، وأشهد على نفسي، وأعلن خطأي بأني قبل الإعلان عن التعاقد مع المدرب الكونغولي فلوران ابيينجي كُنت من المُعترضين على تعاقد الهلال معه، وقد كتبت متمنياً أن لا يكون فلوران هو المدرب الذي أشارت التسريبات إلى التعاقد معه قبل الإعلان عن ذلك، وحتى بعد أن تمّ الإعلان عن تعاقد الهلال معه كنت مُتحفِّظاً على الخطوة، وقد كنت أتمنى وقتها أن يتعاقد الهلال مع مدرب أوروبي برتغالي أو فرنسي أو إسباني (عقدة الخواجة)، وكانت خطوة التعاقد مع مدرب أفريقي لا تجد عندي الترحيب، ثم إنِّي كنت أخشى مثالية فلوران ابيينجي والهدوء الذي كان يُعرف به، وكنت أقول عنه إنّه مدرب (بارد) وقليل الانفعال، وأنا أعتقد أنّ المنافسات والبطولات الأفريقية تحتاج إلى مدرب شفت وشرس ولسانه طويل وشديد الانفعال والكواريك، هذا كان هو رأيي قبل الإعلان عن التعاقد مع فلوران، ليتبدّل هذا الرأي 180 درجة، وأكتشف أنّ انطباعاتي عن فلوران لم تكن صائبةً، بل كانت ظالمة، وهذا للاعتذار والمراجعة ولكم العُتبى حتى ترضوا، وقد تعلّمت من هذا الموقف إعلامياً أن لا أحكم على الأمور من الظاهر، بعد أن تعرّفت على فلوران وعايشته في معسكر طويل خارج البلاد، ورأيت سلوكه وعمله وأسلوبه وعرفت شخصيته وإمكانياته الكبيرة.
أدركت أنّ الهدوء مطلوبٌ في كل شئ، وإنّ الرزانة والتّقَلَة صنعة، وإنّ ما لا يتحقّق بالأدب لا جدوي منه أن يتحقّق بقلة أدب.
الكلام دا ما بتلقوه في حِتّة تانية، أرجعوا ليه تاني!!
الانطباعات أحياناً تكون صائبةً، وأحياناً لا تُخيّب، وفي علم النفس هنالك فراسة يتميّز بها البعض، ولكن يجب أن لا نبني رأياً علميّاً أو مهنيّاً على انطباع حتى لو جانبه الصواب.
قد تصدّق انطباعاتك كثيراً ـ ولكن مع ذلك لا يجب أن نبني عليها.
تعلّمت من تجربة فلوران في الهلال أنّ أهم عُنصر عند التعاقد مع المدرب هو عُنصر سلوكيات المدرب وشخصيته، وبصورة عامة أحسب أنّ المدرب في المقام الأول (شخصية) قبل أن يكون شهادات وخبرات وإنجازات.. ومن الصعب أن يُحقِّق مدرب إنجازات إن لم يكن يمتلك الشخصية القوية والسّويّة أو المثالية أو يمتلك الكاريزما.. مدرب ضعيف أو غير محترم وغير محبوب من اللاعبين، من الصعب أن ينجح إن لم يكن نجاحه مُستحيلاً، حتى وإن كان يمتلك قدرات فنية خرافية، وشهادات رفيعة. قد توجد بعض الاستثناءات، ولكن في السودان مدربٌ لا يملك مواصفات إنسانية وشخصية مُحترمة، من المستحيل أن ينجح، خاصّةً في الهلال الذي يُعرف بنادي الهلال للتربية.
نَحنُ في الهلال الكرة عندنا (أخلاق) وليست (أقواناً) كما هو عند الآخرين.
فلوران يمتلك شخصية ساحرة، تتميّز بالهدوء الشديد والفلسفة القائمة على المبادئ والقيم والمُثل والأخلاق.
الآن دعونا أقول أو أجزم أنّ مدرباً بدون أخلاق أو مُثل، كان من المستحيل أن يستمر مع الهلال كل هذه الفترة في تلك الظروف التي هَجرَ فيها أولاد البلد بلادهم، وأصبح السوداني الذي يُكرم أينما كان وكان رمز المثالية والطهر والنقاء في الخارج يُعرف بأنّه لاجئ.
مدرب في هذه الظروف لن يستمر مع الهلال كل هذه المدة، وحتى إن استمر فلن يُحقِّق شيئاً من النجاح، وما ينطبق على فلوران في الهلال ينطبق على كواسي أبياه مع المنتخب الوطني.
الكثير من الجهات استغلت وضع البلاد الحالي وقدّمت عروضاً يُسال لها اللعاب لفلوران، ولكن المدير الفني للهلال فضّل الاستمرار مع فريقه، قرّر أن يكون واحداً منا ونحن نمر بتلك الظروف الصَّعبة والقاسية.
لهذا أقول إنّ مجلس الهلال كان مُوفّقاً وكان محظوظاً، عندما تعاقد مع فلوران، فهو كأنه كان يعلم ما ستأتي به الأيام، ليتعاقد مع مدرب تزيده ظروف السودان قوةً وإصراراً وإخلاصاً.
أعظم إنجازات مجلس السوباط هو استمرار المدرب لكل هذه الفترة، وهو الأمر الذي يجب أن نرفع فيه القبعات للعليقي وصحبه.
الحديث عن إنسانية فلوران ومثاليته، لا يعني أن فلوران لا يمتلك مُؤهّلات أو يفتقد للإمكانيات ولا بصمة فنية له في الهلال، وهذه أمور ترد عليها إنجازات فلوران في الهلال الآن، ولا أعتقد أنّ هنالك مدرباً وجد دعمَاً جماهيريّاً في السنوات العشر الأخيرة كما وجد فلوران، وهذا الدعم ناتجٌ عن رضاءٍ عامٍ على ما يقدمه فلوران مع الهلال، بل إنّ فلوران يتميّز على كل المدربين الذين سبق للهلال التعاقد معهم، بأنّه يجد دعمَاً خارجيّاً لا مثيل له، إذ يُحظى فلوران بإشادات أهل الاختصاص في أفريقيا كله، وما أن يحل الهلال في دولة أفريقية إلّا تدافعت جماهير الأندية المنافسة للهلال نحوه وأحاطت به من أجل التكريم والتشجيع والسيلفي، وهذا أمرٌ لا يتوفّـر لمدرب آخر في القارة، بما في ذلك العالمي كواسي أبياه.. وهو كذلك أمرٌ لا يحدث في أفريقيا، أن يجد المدرب الدعم من جماهير مُنافسيه.
فلوران مدربٌ (نجمٌ)، والبطولات لا تتحقّق من غير المدرب (النجم)، هذا هو أحد شروط الحصول على بطولة قارية.
فنياً، أحدث فلوران طفرةً ونقلةً كبيرةً في الهلال، وقد أدّت هذه النقلة الفنية التي حدثت في الهلال إلى نتائج لم يسبق للهلال أن حقّقها طوال تاريخ الهلال في البطولة الأفريقية.
النتائج تتحدّث عن فلوران، ولا حاجة لنا للمجادلة والنقاش حول إمكانية فلوران، لأنّ النتائج والأرقام هي التي تتحدّث عنه، بل إنّ الأداء نفسه يشهد له، مع التأكيد أنّ الأداء في عالم كرة القدم لا يكون ثابتاً، وهو شئٌ تحدث فيه انخفاضات من حين إلى آخر.. السيطرة على الأداء ليكون في مستوى واحد أمرٌ مُستحيلٌ، وهو لا يحدث حتى في ريال مدريد وبرشلونة واليوفي والسيتي وكل الأندية العالمية الكبيرة.
الحالة الفنية التي أوجدها فلوران في الهلال، جعلت الهلال هو الفريق الوحيد ضمن 16 نادياً يتنافسون على اللقب ويُحقِّق ثلاثة انتصارات متتالية في مرحلة ذهاب المجموعات، منهما مباراتان لعبهما الهلال خارج ملعبه، علماً بأنّ الهلال ملعبه نفسه افتراضيٌّ.
لفلوران يرجع فضل صناعة فريق الهلال الحالي 2025م.. هلال 2007 الذي سحر أفريقيا وكان قريباً من اللقب، وأبدع في 2010م، يرجع الناس تكوينه إلى مصطفى يونس ومن بعده ريكاردو في وجود صلاح إدريس، الذي يرجع له الفضل الأول، أما الهلال الحالي، فيرجع فضل تكوينه إلى فلوران إلى جانب جهازه الفني وعبد المهيمن الأمين والطاهر يونس والعليقي الذي فات الكبار والقدرو.
صبر فلوران لقرابة ثلاث سنوات وظلّ يعمل في صَمتٍ وهُدوءٍ، إلى أن وصل إلى توليفة الهلال الحالية، وننتطر المزيد من الإضافات في الفترة القادمة حتى يُحقِّق الهلال لقب الأميرة السمراء، اللقب الذي انتطرناه كثيراً، وفشل فيه الجميع.
الجهد والعمل الذي يقوم به مجلس الإدارة والجهاز الفني، سوف يوصلنا في النهاية إلى ما نصبو إليه وما نتمناه.
طبعاً لا يوجد مدربٌ في الدنيا يُمكن أن يُحقِّق إنجازاً واحداً إذا لم يجد الدعم الكافي والمُساندة الكاملة، المادية والمعنوية من مجلس الإدارة، وهذا ما وجده فلوران من مجلس الهلال.
معجزة فلوران في اعتقادي ليس في الحالة الفنية التي أوجدها فلوران في الهلال، وإنّما معجزته في الحالة النفسية والروح التي أحدثها فلوران في الهلال.
في الهلال هنالك أجواءٌ أسريةٌ جعلت لاعبي الهلال كأنّهم يعيشون في بيوتهم التي غابوا عنها قرابة العامين، في الهلال إلفَةٌ ومَـوَدّةٌ وحُـبٌ وتكافلٌ وتعاضدٌ، وهذا أمرٌ لعب فيه مدير الكرة عبد المهيمن الأمين دوراً كبيراً بخبراته العريضة وبإنسانيته العالية، وهو أحد العناصر المهمة التي قامت عليها إنجازات الهلال، ليس في الفترة الحالية وحدها، بل في كل الفترات السابقة التي حقّق فيها الهلال إنجازات منذ أيام صلاح إدريس في 2007م، وحتى وقتنا هذا ونحنُ على موعدٍ مع إنجاز جديد إن شاء الله في العام 2025م.
عبد المهيمن الأمين هو العامل أو القاسم المُشترك الأعلى في كل نجاحات الهلال في الألفية الثالثة.
في الهلال، هنالك أسماءٌ ناجحةٌ كثيرةٌ، نحن لا نكتب عنهم ليس غفلةً أو تجاهلاً، ولكن لإدراكنا أنّ هنالك أعداءً للنجاح، وما أن يروا ناجحاً إلّا حاربوه وعملوا من أجل إفشاله.. عندما تلفت الأنظار إعلامياً إلى ناجح سوف يتركون كل شئ ويُحاربونه، هذا ليس هاجساً في الهلال وحده، وإنّما أمرٌ موجودٌ في الحياة بصُورةٍ عامةٍ.
الناجحون تتحدّث عنهم إنجازاتهم، فهم ليسوا في حاجة لكي يتحدّث الإعلام عنهم وإن كنا نقف في (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، لهذا من فينة لأخرى نشكرهم.
أكتب عن فلوران اليوم لأنّه أطربني بتصريحاته الأخيرة لقناة (كاتال بلس) التلفزيونية، لقد أسعدني فلوران كثيراً وجعلني أحس بالفخر وأشعر أنّ اللقب أصبح قريباً والهلال يُحظى بهذه الشهادة العظيمة من مدربه.
إنَّنا في كل يوم نتعلّم شيئاً جديداً من فلوران.
في شهادة أثلجت صدورنا، قال فلوران للقناة السالف ذكرها:
لا أعتقد أنّه كانت لديّ مجموعة مثل هؤلاء اللاعبين منذ بدايتي في عالم التدريب. فلوران يشهد أنّ لاعبي الهلال الحاليين هم أفضل مجموعة عمل معها طوال مسيرته.
هذا وسامٌ يجب أن نعلقه على صدورنا ـ بل على جباهنا.. علماً بأنّ فلوران حقّق مع منتخب بلاده لقباً قاريّاً مع مجموعة تعج بالمواهب والسحرة، وحقّق فلوران مع نهضة بركان لقباً أفريقيّاً بمجموعة يحترف بعضهم الآن في أوروبا، وعمل فلوران مع فيتا كلوب وقاده إلى إنجازاتٍ كثيرة، ويأتي فلوران بعد ذلك ويشهد بالفضل للاعبي الهلال.
بعد هذه الإشادة، ما الذي يمنع الهلال من اللقب القاري، وفلوران مع لاعبين أقل من لاعبي الهلال حقّق إنجازات قارية؟
فلوران ابيينجي لا ينسى الجانب الإنساني، ويقول عن لاعبي الهلال إنّهم استثنائيون ورائعون حقاً.. في هذه الفترة الصعبة بسبب الحرب، أظهروا صفات إنسانية لا يمكن قياسها. اللاعبون السودانيون يساعدون رفاقهم الأجانب على الاندماج بسرعة، ويعاملونهم كعائلة واحدة، وهذا أمرٌ مُثيرٌ للاهتمام.
إذن، فلوران لا يتحدّث عن الجانب الفني فقط، هو يتحدّث أيضاً عن الجانب الإنساني وهو الأهم في هذه الظروف، وهنا لا بُـدّ لنا أن نذكر دور قائد الفريق محمد عبد الرحمن الغربال، الذي كان له دورٌ كبيرٌ في إيجاد هذه الروح وتلك العائلة.
نعم الأجواء في الهلال مُحفِّزةٌ، أجواء جميلة ورائعة، لذا فإنّ الروعة ليست غريبة عليهم.
فريقٌ بهذه المكونات وبتلك القيادة الفنية والميدانية، يستحق أن يُحقِّق لقباً قاريّاً.
فلوران جديرٌ بهذا.
والغربال يستحق أن يكون أول قائد للهلال يرفع كأساً قاريّاً.
في هذه الظروف الصعبة، نحتاج إلى هذه الفرحة.
العليقي وعبد المهيمن دوركما في الفترة القادمة دورٌ عظيمٌ، فلا تجعلوا اللقب يفلت من بين أيديكم.
أنتم تستحقون ذلك.
وجمهور الهلال العظيم يستاهل لقباً قاريّاً، فقد هُرمنا.. هُرمنا في انتظار تلك اللحظة التاريخية.
اللهم أحفظ الهلال، ووفِّق الهلال، وأنصر الهلال، واجعل مسك ختامنا في هذا الموسم اللقب الأفريقي.
نقول يارب.
….
متاريس
يجب كما ظللت أكرِّر، علينا الترتيب مُبكِّراً للفوز الرابع توالياً في المجموعات.
لا تتخلّوا عن هذا الإنجاز، وحافظوا على هذا السِّجِل.
الانتصار الرابع توالياً يعني الكثير.
على الأقل يعني أنّ الهلال قبل جولتين حسم صدارة مجموعته.
نتحدّث عن الصدارة وليس عن التأهُّـل.
لذلك لا بديل غير الانتصار.
ما تفكوا درب الانتصارات. لمن تفكوا درب النصر، العودة إليه سوف تكون صعبة.
في مواضيع كدا.. وحاجات صغيرة شديد هنا وهناك في الوقت الحالي ما فاضين ليها، عندما يأتي وقتها سوف نكتب عنها، ونرجع ليها فلا تتعجّلوا عليها.
عندهم يوم.
اصبروا بس ـ والحساب بجمع.
اللهم أحفط الهلال.
اللهم أحفظ السودان وأهله.
تحدثت عن فلوران.. نسيت أن أتحدّث لكم عن قطار السّاعة السّادسة مساءً.. لقد حَـلّ المَسَاءُ.
أحدِّثكم مرةً قادمةً عن المَسَاءِ وقطاره، أو ربما لا أحدِّثكم.
على كيفي.
…
ترس أخير: ما تقلبوا الصفحة لسه في كلام تاني.