قُـوقَـاي صديق أحمد وتَـرتَـرة جان كلود

صََابِنَّهَا

محمد عبد الماجد

قُـوقَـاي صديق أحمد وتَـرتَـرة جان كلود

كنت أقرأ عن تأثير البيئة على الإنسان وعلى المبدع بوجه خاص، حتى وجدت ذلك في صديق أحمد مثل العطر الذي تدّخره للأعياد، وينفذ في الطرقات كالإعلان الضارب، وصديق أحمد في شموخ نخيل الشمال، في صوته أشكال وأنواع وألوان مختلفة من ثمره فهو تارةً تجد صوته كالرطب في بدايات الأغنية، وكالعجوة عندما ينغمس في الأغنية فتحس بذلك حتى تكاد أن تبحث في فمك عن (النواة) خشية أن تبلعها.. في صوته كل أصناف (البلح) تسمع عنده طعم الدروس بطعم (القُنديلا)، وحبل الصبر بطعم (التّمودة)، وحديثك شوّقْنا ليك بطعم (البركاوي)، وأرجوك لا تمحن قلبي بطعم (القرقيدة)، وجروح قلبي الأبت تبرأ بطعم (الجاو)، ومسافة السكة بطعم (الكولما)، ونار عويش بطعم (الكروشة)، وبلالي متين يجي بطعم (ود لقّاي)، ومرسال القمر بطعم (المُشرق)، وغير هذا فإن صديق أحمد صوته يخرج من حضارات الشمال، لذلك فهو عميق، ربما لذلك ينحني النيل هنالك في الشمال طرباَ لصديق أحمد ويُغيِّر سير مجراه احتراماً لتلك الحضارات واستكانة بصديق أحمد.. وكيف لا ينحني النيل طرباَ (أصلو ود أب زيد كل يوم من بلدنا يرحل جدي).
في علم الصوت وهذا اجتهادٌ من عندي ـ في صوت صديق أحمد طبقات متعددة ومركبات فضائية متنوعة.. التنوع الذي يوجد في حنجرة صديق أحمد وفي صوته كأنه انعكاسٌ لتنوع السودان، فهو يستطيع أن ينزل بصوته لغابات الجنوب ثم يرتفع به إلى صحراء الشمال، في حنجرته (الغابة والصحراء).. فيه سهول الغرب ورماله وتبلديه.. وفيه شواطئ الشرق وأراكه وصدفه.. حنجرته تجمع بين الهضاب والسهول والوديان والجبال والمنخفضات والمرتفعات.. يتنوّع صديق أحمد هكذا، يحمل في حنجرته كل المناخات الحارة والباردة والجافة والغنية والممطرة صيفاً والممطرة شتاءً، تجد صوته بهذا العرض فهو حادٌ مثل إبراهيم الكاشف وغليظ مثل محمد الأمين.. يجمع بين هدوء كمال ترباس في الطرب وبين صخب نور الجيلاني في حلاوة الأداء.
فيه شئٌ من وردي وشئٌ من كابلي وشئٌ من ابراهيم عوض وشئٌ من عبد العزيز محمد داؤود، إنه مائة حنجرة في حنجرة واحدة، بهذا أشعر عندما أسمع صديق أحمد.. أزعم أن صديق أحمد يغني بفمه ويغني أيضاً بأنفه وفي أغنياته أنفة كبيرة.
يحضرني في هذا المقام أن أقول إنّ صوت صديق أحمد حكاية، فيه قصص ومشاهد وفصول ودروب وروايات، يحمل في حسه صوراَ ملموسة وهو ينزل ويطلع بك كأنك في رحلة أو في سفر طويل.
صديق أحمد من ناحية (كيمائية) بحتة هو أول من استنسخ صوت (القمري) في الأغنية السودانية.. قوقاي صديق أحمد جعل القمري والكناري والبلابل تحسده، وهو أول من جعل النخيل إلى جانب البلح يثمر أغنيات بصحبة عبد الله محمد خير وإسماعيل حسن والسر عثمان الطيب وحميد وعبد الله كنه وإبراهيم بن عوف.. والنخيل في الشمال مجبرٌ على ذلك في وجود حسن الدابي ومحمد سعيد دفع الله حتى جيل محمد سفلة وشقوري والباشا والحبيب والفاتح إبراهيم بشير.
علاقتي بصديق أحمد، بدأت ونحن طلبة في مرحلة مبكرة من حياتنا في شندي، كان وقتها صديق أحمد مغترباً خارج البلاد، وكنا نعلم بعودته للسودان من الخارج عن طريق أحد أقاربه في شندي، والذي كان يفخر بذلك ويقشر علينا بتلك القرابة، حيث كان صديق أحمد يمر بشندي ويزور أقاربه وهو في طريقه إلى مروي من الخرطوم.. كنا نتصيّد مجيئه عاماً بعد عامٍ، وكنا نقف عند أناقته بجلبابه الناصع البياض وعمامته التي كان يلفّها بطريقته الخاصّـة ونظارته العجيبة كذلك كنا نوصفها، نسترق النظر إليه (حديثك شَـوّقنا ليك) أو أغنياتك ونحن نحسبه فناناً قادماَ من عالم آخر، نردد أغنياته في سرنا ونحن ننظر إليه من بعيد.
ثم كان لقاؤنا به بعد امتحانات الشهادة السودانية، أتذكر أننا حضرنا له حفلاَ كان على شواطئ النيل في حدائق الصداقة التي تحوّلت إلى برج الفاتح بعد أن كانت جنينة الحيونات.. حضرنا حفلاً لصديق أحمد، ولأن صديق فنان ويشعر بما يريده المستمع، غنى لنا في تلك الحفلة (أجمل الحلوين)، أكيد أن صديق أحمد شعر بحسه أن جمهوره الذي يستمع له وقتها أغلبه من الطلبة الذين خرجوا من امتحانات الشهادة السودانية للتو، فغنى لنا (إن شاء الله يا بسّام تظهر نتيجة العام ونكون من الناجحين)، حينها لم تسعنا الأرض، شعرنا أن صديق أحمد ترك أي شئ وغنى لنا، بقيت الأغنية في الذاكرة بتلك التفاصيل.
من بعد، زرت صديق أحمد كصحفي في بيته بأم القرى في الخرطوم بحري، وتعرّفت على ابنه البار أمجد الذي ظل يلازمه في كل تحركاته.. كان يلازمه في الحفلات وأصبح يلازمه بصورة أكبر بعد أن أضعف المرض حركته منذ سنوات.. في ذلك اللقاء تعرّفت على صديق أحمد عن قرب وعرفت من أين خرج ذلك العمق السفري في أغنيات صديق أحمد، فقد كان والد صديق أحمد يعمل في السكة الحديد، ونحن أبناء تلك السكة نشعر بالحنين كما يقول المخرج المبدع الطيب الصديق، بل نشعر بالقرابة لكل الذين كان آباؤهم يعملون في السكة الحديد، فقد كانت المحطات هي مدارسنا الأولى، وكان القطر هو معلمنا الأول.
في تلك الجلسة التي جمعتنا بصديق أحمد، تصورت مع أستاذنا صديق أحمد وخرجت من منزله الذي أكرمنا فيه بمجموعة من الصور التي التقطها المصور الفنان حنش، لكن للأسف الشديد عطب أصاب الكاميرا أو فيروس أتلف الصور فعشت ومازلت أعيش حسرة فقد تلك الصور.
مرت الأيام وعبر الصديق سيف اليزل بشير في مروي تواصلت مع أمجد قوقاي ـ ابن الفنان صديق أحمد، وعلمت أن الأستاذ يرقد طريح الفراش منذ فترة في مستوصف مهيرة بنت عبود في كريمة.. بأدبه الجم وحسه الفني الجميل أمدنا أمجد قوقاي برسالة صوتية من الأستاذ صديق أحمد رداً على رسالتي، شرفنا بها صديق أحمد وأطربني كما كان يطربني في أجمل الحلوين وطعم الدوس وبلالي متين يجي.. لقد كنت اطارد صوت صديق أحمد في الحفلات والمركبات العامة والكافتيريات وعندما اقتني شريط كاسيت لصديق أحمد، أغيِّر مشيتي في الشارع واستمع لأغنياته سراً حتى لا تزعجنا طلبات استلاف الشريط من الأصدقاء والأقارب (في ناس بشيلوا الشريط وما برجعوه)، فقد كانت شرائط صديق أحمد وقتها في ندرة لبن الطير، وكانت المسجلات مصابة بداء السعر، فهي دائماً كانت تعض الشريط وهذا كان كأنه يحدث في أكبادنا عندما يعض المسجل شريط لصديق أحمد أو وردي أو عثمان حسين.
بعد تلك المطاردات والملاحقات لصوت صديق أحمد، وصلتني الرسالة الصوتية من صديق أحمد شخصياً وهو في فراش المرض، يحدثني بلغته التي كان يغني بها وبصوته الذي طرب له السودان كله.. كنت أعشم في أن أواسي صديق أحمد برسالتي الصوتية له، فوجدته يواسيني برسالته التي شرفنا بها وهو في وضع لم يكن فيها قادراً على ذلك، لكن لأنه صديق أحمد بقي صديق أحمد الذي يفعل دائماً ما لا يقدر له الآخرون.
صديق أحمد غنى لوردي في بداياته بربابته رغم صعوبة ذلك، وكان صديق أحمد هو من القلائل الذين أشاد بهم محمد وردي وهو يقدم أغنيات بلونية تختلف حتى عن لونية وردي التي يغنى بها.
وصديق أحمد أبدع في تناول التفاصيل الصغيرة والدقيقة في أغنياته وهذا أمر أبدع فيه شعراء الشمال، فهم غنوا للحلة أم غُتايه، وغنوا لكشافة القطر، وغنوا لعيوشة، وغنوا لحمار عم عبد الرحيم، وغنوا لأم قيردون، وغنوا لعكار البحر، وغنوا للهديمات، وغنوا للحمل البلاوي، وغنوا للون القلم، وهذه أمور لا يلتقطها إلا شعراء الدوليب.
وأنا أقف اليوم تحديداً عند أغنية (بلالي متين يجي.. يمة بلالي متين يجي) التي تغنى بها صديق أحمد وهي غربة وحنين نعيشه في النص، وصديق يقول (يمة) بطريقة تجعلك تشعر بأمك وهي واقفة في الباب منتظرة عودتك لأنك تأخّرت بعض الشئ.. تلك الأغنية تثير فينا لواعج الذكري عندما (نركب البيسابق الريح ونمشي للخرطوم نستريح)، وذلك حين كانت الخرطوم للراحة قبل أن تصبح خراباً وأنقاضاً (الرسول يا ود عمتي ان در راحتي ودر جمتي.. رسل التسريح اللجي)، كانت الخرطوم للاستجمام ،والجمة أقصى أنواع الراحة، كانت النقلة (نوعية) لم تكن شاسعة لهذا الحد (كنا نشرب لبن السعاي بقينا نشرب لبن الشاري.. المي بالماسورة جاي.. طبيخنا بالحلة أم غُتايه).. كان الطبيخ في (الحلة أم غُتايه) منتهى الأحلام.
وبلالي متين يجي يمة بلالي متين يجي.
عمل صديق أحمد في بداية حياته في مجال التمريض، لذلك كان (جراحاً) ماهراً ونطاساً بديعاً في جراحة العواطف، وطب الحواس، ولهذا هو فضّل أن يبقى في كريمة التي انطلق منها ورفض العروض التي قدمتها حكومة الولاية الشمالية عبر والي الولاية ووزير الصحة الذي زاره وعرض عليه النقل للمستشفى القطري تحت عناية المدير العام للمستشفى د. عوض يعقوب أو الانتقال إلى مستشفى الضمان مروي ومديره دكتور حافظ إلى جانب مدير العلاقات العامة، ولكن صديق أحمد فضّل أن يبقى في كريمة بمستوصف مهيرة بين الأصحاب والأحباب تحت رعاية مديره الدكتور مصطفى عبد الرحمن صاحب المستوصف وراعي مبادرة علاج الأستاذ صديق أحمد.
اذكر هذه الاسماء تقديرا لما قدموه للأستاذ.
كذلك لم يغب عن صديق أحمد المدير التنفيدي لمحلية مروي والدبة ومدير مستشفى الدبة د. سليمان، وكانت قيادة الجيش في الولاية الشمالية حاضرةً بشكل دائم تتابع الحالة الصحية لصديق أحمد. سجلت قيادة مروي العسكرية حضوراً كعادتها في مثل هذه المواقف وحضرت الجمعية التعاونية لقوات الشعب المسلحة في الولاية وقدمت الدعم المعنوي والمالي.
وجاء لزيارة الاستاذ كبار الاطباء والمستشارين وخاصة اختصاصي القلب فهم يعرفون ان صديق أحمد كان دواء للقلوب فقد زاره في مستشفاه بروف د. صلاح الباشا مدير عام المركز القومي للقلب بالسودان، ودكتور ماهر عبدالله فضل نوري عميد كليه الطب مروي وعميد شرطة طبيب محمد حسن محمد الحسن أخصائي باطنية وقلب والاخصائية د. ماجدولين بشير عبد الرحيم البشير زوجة بروف صلاح الباشا..
وقد قامت أسرة بروف صلاح الباشا وأسرة بشير عبد الرحيم البشير بتكريمه وهو تكريم من القلب للقلب.
هذا هو السودان الذي لا يتخلى عن واجباته حتي في هذه الظروف ولا ينسى مبدعيه أبداً.
أمجد قوقاي قال إنّ أكثر من خمسمائة شخص يزورون والده في اليوم وهو أمرٌ ليس غريباً على أهل السودان الذين يعرفون كيف يُقدِّرون مبدعيهم.. ولا ننسى كذلك الدور الذي قام به رجل البر والإحسان محمد طه، وما قامت به قروبات الأستاذ على الواتس والفيس، وما قدمته من دعم إعلامي ومن حراك ثقافي وصحي في مواقع التواصل الاجتماعي والميديا بصورة عامة.
نتمنى أن يجد صديق أحمد عناية أكبر من حكومة السودان، ومن حكومة ولاية الخرطوم التي سكن فيها صديق أحمد، ومن حكومة ولاية نهر النيل لارتباط أهاليها في شندي والمتمة وكبوشية وعطبرة والدامر وبربر وأبوحمد بالفنان صديق أحمد، وجمهور صديق أحمد الأكبر في ولاية نهر النيل أو هكذا ادعى.. وإن كان صديق تجاوز النظرة الجغرافية والقبلية وأصبح فناناً للسودان كله رغم أنه يغني لكريمة ومروي.. لقد غنى صديق أحمد للسلام والحرية والديمقراطية والوحدة.
أرجو أن يدخل الهلال والمريخ في هذه التظاهرة الاجتماعية ويضعا اسميهما في دفتر الحضور والدعم، ودور الهلال والمريخ ليس في (الكورة) وحدها.. كما انتظر دعم أبناء السودان بالخارج، وصدبق أحمد أفضل من عَبّرَ عن غربتهم وهجرتهم.
أسأل الجميع وأرجو أن يدعو كل شخص لصديق أحمد بالشفاء والصحة والعافية، فأكثر ما يحتاج له صديق أحمد في هذا الوقت دعواتكم ونواياكم الطيبة.
بقي أن وضح أخيراً إنِّي ما قرنت (ترترة) جان كلود في العنوان بقوقاي صديق إلا من أجل الإشارة فقط لكينونة صوت صديق أحمد ولحركته التي تكاد أن تشعر بها مجسماً وتحس بها صورة.
أي مدافع بدخل على جان كلود (بترتر) براهو متل حمل الخريف.
في هذه الحرب نحن أكثر ما نكون في حاجة إلى الترابط والتماسك والتكافل والحب.
أبحثوا عن من يجمعنا، لا عن من يُفرِّقنا، وصديق أحمد، أحد الذين اجتمعنا حولهم، وهو من الذين عملوا من أجل سودان واحد ووطن واحد وشعب واحد وجيش واحد لا يقبل القسمة والشرذمة.
صديق أحمد.. كن بخير.
..
متاريس
لاحقاً إن شاء الله أحلل لكم مباراة للهلال تكون الفرحة فيها حاضرة عبر أغنيات صديق أحمد.
إنتو لو بتصبروا ما بتجيكم عوجة.
مشكلتكم ما بتصبروا.
..
ترس أخير: اللهم أشفِ صديق أحمد وبلِّغه الصحة والعافية، وأحفظ السودان وأهله في كافة البقاع.