لا أعرف متى ومن زرع على ألسنة الجماهير الهتاف الشهير “مدنياوووو” وينطق هكذا ويقصد به كلمة “مدنية”.. وهو شعار مرفوع – كما يرفع حكم مباراة كرة القدم البطاقة الحمراء أو الصفراء- في مواجهة الكلمة المقابلة لها، أي “عسكرية”..
وقد يبدو مفهوماً في مرحلة الشد والجذب خلال مفاوضات قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري لتكوين مؤسسات الحكم الانتقالي، أن يكون هذا الهتاف والشعار حادياً مدوياً يعلن مطالبة الشعب السوداني بحكم مدني على أطلال الحكم الدكتاتوري المخلوع. لكن من غير المفهوم أن يتمدد الشعار بنفس الهتاف “مدنياوووو” بعد توقيع الوثيقة الدستورية والتراضي على مؤسسات الحكم بما فيها مناصفة المجلس السيادي بين المدنيين والعسكريين..
وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور لا يزال في كل محفل جماهيري هناك من يهتف بقوة “مدنياووو”.. في وجه من؟ لا أحد يعرف..
وقد لا يكون مشكلة أن يكون هناك شعار مرفوع على الرايات حتى ولو لم يكن له معنى عملي مباشر، لكن المصيبة أن يكون الهتاف والشعار مثل المدية تشطر المشهد السوداني إلى قسمين متباغضين.. إشهار وبث الكراهية في المجتمع ضد كل ما هو نظامي.. وحتى لو لم يقصد من يهتف به ذلك المعنى لكن الرسالة تصل إلى المتلقي الآخر – العسكري- بهذا المعنى البغيض.. معنى الإقصاء والكراهية بل والمواجهة..
الآن؛ فرصة نادرة لن تتكرر، بعد أن شهد الشعب خلال الساعات العصيبة من نهار يوم الثلاثاء الماضي حتى الساعة الأولى من فجر الأربعاء أمس، كيف أنَّ القوات المسلحة تصدت بمنتهى المهنية والاحترافية والبسالة لحريق كادت تمتد ألسنته لتصبح حالة فوضى عارمة لا يدري أحد إلى أين تقود السودان.
من أول لحظة أعلن فيها عن تمرد مجموعات من قوات هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات العامة، أعلن الجيش أنه قادر على حسم الفوضى.. ومع ذلك منح المشاركين في الأحداث فترة زمنية مناسبة امتدت حتى منتصف الليل لينهوا الأمر بلا عنف، ثم أخيراً لم يكن ممكناً أن يترك الجيش شمس اليوم التالي تشرق على الحال ذاته، لأنَّ ذلك يبعث برسائل سالبة ربما تشجع آخرين أن يمارسوا الاحتجاج المسلح على غرار ما حدث.
وكانت المفاجأة السارة ظهور الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة مع الدكتور عبدالله حمدوك رئيس الوزراء جنباً إلى جنب، في مؤتمر صحفي قصد توجيه رسالة قوية أنَّ “مدنياووو” لا تعني مع وضد.. بل الجميع مع الوطن.. وطن بلا جيش لن يحترم استقراره وسيادته أحد، ودولة بلا حكم مدني لن تعيش في عالم يقسم المهام ويوزع السلطات بتكافؤ رشيد.
من أجل الاستقرار الموجب للنهضة والتنمية مطلوب تأسيس علاقة “صافية كالدينار” بين قطاعات المجتمع السوداني، فلا حاجة بعد اليوم للتفاصل بين مدني وعسكري فكلاهما يؤديان وظيفة حتمية من أجل وطن مستقر ينبض بعافية التنمية والنهضة.