مذكرات من الحرب اللعينة (١٦)
مأساة مصنع الريحه..!
أبوعاقله أماسا
* لابد أن تكونوا قد سمعتم رواية أو روايتين عن حادثة حريق مصنع الريحه الواقع بالمنطقة الصناعية أم درمان ومثيلاتها من الحوادث المرعبة التي غطت عليها أحداث ومجريات الحرب والعمليات العسكرية، ولكنها ستظل من الحوادث الخالدة في التأريخ السوداني بما فيها من دروس وعبر وربما عدالة سماوية.. وهي وجه آخر لوجوه المآسي الكثيرة التي ستظهر بعد نهاية الحرب وإنتصار القوات المسلحة، وكثير من الحوادث المشابهة سوف تكتشف وتكون بمثابة إجترار لما سقط من الأحداث وقد تكفي لعقود قادمة بما اختزنتها من أحزان ومفارقات وغرائب..!!
* جنباً إلى جنب سارت حوادث النهب والسلب والإرهاب مع مجريات الحرب والمواجهات الدامية بين القوات المسلحة والدعم السريع، وسرت في المجتمعات حكايات وروايات عن وجه آخر للإنسان السوداني الذي عرف من قبل بالأمانة والنزاهة.. وتعرضت معظم المصانع والمخازن والمحال التجارية والبنوك للإعتداءات والسلب والنهب والسرقات، إما بواسطة قوات الدعم السريع الذين يتولون عملية الكسر ويفتحونها للمواطنين في عمليات أقل ما يمكن أن توصف بأنها خارجة عن القانون، ومن ضمن هذه المصانع التي تعرضت للنهب الإنتقامي مصنع الريحة بشمال المنطقة الصناعية أم درمان على مدى أيام عديدة قبل حادثة الحريق والإنفجار الأعظم لكل جنبات المصنع، وبعد أن تم النهب الهمجي للمنتجات المعدة للتسويق تحول اللصوص إلى مقتنيات المصنع والمعدات الخفيفة، وبحسب شهود عيان كانوا يدلقون برميل الخام على الأرض ليفوزوا بالبرميل الفارغ، وشتان ما بين محتوى البرميل وفارغه؟
* من حضر من عمال المصنع والحرس ترجوا اللصوص والمعتدين لكي يأخذوا المنتجات ويتركوا ما سواها من مقتنيات، ولكنهم لم يستوعبوا النصح، ومضوا في النهب والتخريب، وكل يوم يمر كان عدد الذين يدخلون للنهب في ارتفاع، وتضاعفت الأعداد حتى جاء اليوم الموعود وحانت لحظة العدالة السماوية، ووقتها كانت أصحاب المصنع قد وصلوا مرحلة اليأس من إقناع هؤلاء الضيوف الثقيلين.. أحدهم نبههم بأن ما أفرغوه على الأرض مواد كيميائية مشتعلة ولها أضرار أخرى ووجب الحذر، ويبدو أن اللحظة القاتلة قد غشيت البصيرة وأعمتها، فأشعل أحدهم سيجارته وسط هذه الفوضى فكان الإنفجار الرهيب الذي أحرق عدداً لا يقل عن (٥٠٠) شخص رجال ونساء وأطفال، تفحمت جثثهم على الآخر وصارت رماداً وبعضها بقي في وضع أشبه بمجسمات كارثة بومباي الإيطالية.. نعم هي نفسها.. منظر الأجساد مسجاة وقد تفحمت والجماجم والعظام بأحجام مختلفة تتناثر هنا وهناك..!!
* الإنفجار نفسه كان هائلاً، وقد تسبب في هبوط أكثر من طابق في المبنى الرئيس، وامتدت ألسنة اللهب في لحظتها لتجذب كل من كان في محيط المبنى وهي في قمة السعر والنهم.. ولكن ملف هذه الحادثة لم يطوى بعد.. فمايزال هنالك العشرات من الفقودين تحت ذلك المبنى المحترق لم يعرف ذويهم أنهم هناك.. فضلاً عن حالات وفيات لاتحصى في أماكن أخرى تعرضت للنهب في مناطق مختلفة في بحري والخرطوم، وخاصة أمدرمان في المخازن العملاقة التي نهبت في غربها، وهناك من إنهارت عليهم جوالات السكر وهناك من قضى برصاص الجنجويد ومن قضى بتفلتات النيقرز الذين تزاحموا على تلك الأماكن للإتجار بالمسروقات..
* في حادثة (مصنع الريحه) دروس كبيرة وعبر لكل من إستهون الإعتداء على أموال الغير.. وهنالك قصص وروايات كثيرة لأسر كاملة تفرغت لجمع هذه الغنائم من المخازن والمصانع والبيوت التي غادرها أصحابها وانشأوا مخازن داخل بيوتهم تحتوي على المواد الغذائية.. وفي المقابل تعرضت بعض المصانع لتدمير ممنهج بعد أن اكتملت عمليات نهب المنتجات، وتم تفكيك الماكينات وسرقة المولدات والحديد وغيرها من المقتنيات.. مايعني أنها ستكلف أموالاً طائلة لكي تعود مرة أخرى للعمل…
… سنعود ونواصل…