صَابِنَّهَا
محمد عبد الماجد
منتخبنا.. (وكان تعب منك جناح في السرعة زيد)
في كرة القدم، أهم عُنصر للانتصار هو عُنصر (التوفيق)، إذا غاب التوفيق لو بتنطق الكرة وبتخلِّيها تتكلّم عشر لغات غير اللهجات المحلية ولغة الإشارة، ولغة العيون، فلن تُحقِّق الانتصار، لكن علينا أن نعلم أنّ (التوفيق) لا يأتي من فراغٍ أو يأتي عفواً في (بستلة) اللا مبالاة ـ التوفيق يأتي للأكثر اجتهاداً، والأكثر عزيمةً وإصراراً ـ النوايا الطيبة والسليمة أيضاً لها دورٌ في ذلك، أيِّ عمل لا تدخله بنوايا سليمة لن تُوفّق فيه.. قد تتقدّم أحياناً وقد تنتصر مرات، لكن إذا غابت النوايا السليمة لن تحس بفرحة النصر ولا بحلاوته.
لكن دعونا نسأل سؤالاً فلسفيّاً كدا ونقول ما هو التوفيق في مباريات كرة القدم؟
التوفيق هو أن تُصوِّب كرة برّه المرمى، تقوم تدق في مدافع الفريق المنافس وتدخل القوون.. وعدم التوفيق هو أن تُسدِّد كرة في المرمى الخالي تدق في القائم وتطلع.
ما هو الشئ الذي جعل الكرة الأولى تدخل هدفاً، والكرة التانية تطلع برّه؟
أعتقد أنّ هذا هو الذي يُعرف عندنا بالتوفيق.
في ناس بقولوا ليك الكرة دي مربطة.. قدر ما شاتوها ما دخلت.
دا عدم توفيق بس.
وفي حارس، الكرة تدخل من تحت أقدامه ويقول ليك والله ما شفتها، ويخرج بعد المباراة ويحلف بالطلاق ويقول الكرة دي مربطة، والله ما شفتها إلّا جوّه القوون.
أو شفت الكرة (كديسة).
دا توفيق يا كابتن ما تربيط.
ما عندي ليكم تفسير تاني.
بس مُهم جداً نقول إنّ التوفيق أو عدم التوفيق مُرتبطٌ ارتباطاً كاملاً بما يتم من عمل وجهد وترتيبات قبل المباراة.. يعني ممكن فريقك في المباراة ذاتها أو في الـ90 دقيقة ما يكون جيد، لكن ما قام به الفريق قبل المباراة من استعدادات وما بذله من جُهدٍ هو الذي كفل له الانتصار.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ التجهيزات والترتيبات والجهد الذي يحدث قبل المباراة له دورٌ في النصر، لا يقل بأيِّ حال من الأحوال عما يحدث أثناء المباراة، ومن هنا يأتي دور مجلس الإدارة والجهاز الفني والإعلام والجمهور، لأنّ كل هذه القطاعات دورها الأكبر يكون قبل المباراة، أكيد للمدرب والجمهور دورٌ أثناء المباراة، ولكن هذا لا يعني التقليل من دورهم قبل المباراة.
شفتوا الفلسفة دي كيف؟
مالي عاوز أصعِّب الموضوع على نفسي.
الخلاني أمشي على الفلسفة دي شنو؟
أنا مالي ومال الفلسفة.
ونحن في الغالب ننظر إلى الجانب الفني ونهمل الجانب النفسي، ونعتد بالجانب البدني ونهمل (الروح).. والانتصارات عادةً تحدث بعد أن تتوافق كل هذه الجوانب.
هناك كثيرون ينظرون إلى انتصارات الهلال الأخيرة على ما يحدث في المباراة، والحقيقة هي غير ذلك، هنالك عملٌ كبيرٌ وشاقٌ يحدث في الهلال قبل المباراة، ليس في هذا الموسم وحده، بل يحدث ذلك في الهلال منذ ثلاثة أو أربعة مواسم حتى وصل الهلال إلى ما هو فيه الآن.
الطالب بدخل الجامعة بعد الروضة ومرحلتي الأساس والثانوي.
الانتصارات برضو بتتحقق بعد مراحل، نحن مشكلتنا بننظر فقط للمرحلة الأخيرة.
السوباط والعليقي والفاضل التوم ومجلس الإدارة عامة ما كان لهم أن يحصدوا ثمار زرعهم في الموسم الأول، هذا لا يحدث حتى في (البصل)، الموضوع عاوز ليه صبر وطُولة بال، كذلك لا نستطيع أن نجهل أو نهمل ما قام به الجهاز الفني ودائرة الكرة والمكتب الإعلامي في الهلال ومكتب العلاقات العامة، هنالك عملٌ ومجهودٌ مبذولٌ من كافة القطاعات.
في منظومة كاملة شغّالة.
أيِّ شئ تحصل عليه بدون اجتهاد بتكون فرحته ناقصة، والانتصار المسروق هو الانتصار الذي تكون لا عملت له ولا بذلت من أجله مجهوداً.
منتخبنا الوطني في هذا العام حالفه التوفيق، قد لا يكون المنتخب الوطني هو الأفضل مُقارنةً مع نفسه في مواسم سابقة، ولكنه من ناحية النتائج هو الأفضل لا جدال، فقد تصدّر مجموعته في تصفيات كأس العالم في وجود منتخبات كبيرة مثل السنغال، ودي حاجة ما ساهلة، وتأهّل منتخبنا إلى نهائيات بطولة الأمم الأفريقية «الكان»، الفرح عاوز يشرطني وقد كان التأهُّل على حساب غانا التي فشلت في التأهُّل وفاز عليها السودان ذهاباً وإياباً وهو يلعب خارج ملعبه كل مباريات التصفيات، وغانا تلعب على أرضها ووسط جمهورها وبـ21 لاعباً كلهم يلعبون في الدوريات الأوروبية.. ولاعبونا تم تجميعهم من الدوري الموريتاني والدوري الليبي، وبعضهم جاء عاطلاً من اللا دوري، وهنا لا بد أن نقف عند الدوري الموريتاني والدوري الليبي بسبب الخدمة الكبيرة التي قدماها للكرة السودانية، نحن حقاً مُدينون بالفضل للدوري الموريتاني والدوري الليبي، وأتمنى أن يحدث تكريمٌ من الدولة ومن اتحاد الكرة السوداني للاتحادين الموريتاني والليبي.. وأنا سوف أعود وأكتب عن جنوب السودان، وعن مصر، وعن ليبيا، وعن موريتانيا، على فضلهم (الشعبي) علينا ونحن في هذه الحرب اللعينة، وعلى جميلهم معنا بعيداً عن الحسبة السياسية وتقاطعاتها القذرة، ولا أنسى السعودية التي يرد لها اتحاد كرة القدم السوداني الفضل في إعداد المنتخب ودعمه.
سوف نقول شكراً لكل من وقف مع السودان ومع شعبه على وجه التحديد في هذه المِحْنَة.. ونحن هنا يهمّنا البُعد الاجتماعي، وأتمنى أن يعكس السوداني في أي دولة خارجية لجأ إليها صورةً مُشرفةً عن السودان، وأن يُقابل الإحسان بالإحسان، كما اعتدنا من السودانيين.
وجاء منتخبنا بعد هذا التأهُّل المُستحق في «الكان» والقفزة الكبيرة في تصنيف الفيفا للمنتخبات وتأهّل لنهائيات الأمم الأفريقية للمحليين «الشان» في تصفيات صعبة وشاقّة لا تقل عن تصفيات «الكان»، حيث تأهّل السودان بعد أن تغلّب على تتزانيا، وتغلّب على إثيوبيا، وكان ذلك بعد منافسة قوية في النقاط والأهداف من منتخبات أخرى ظروفها أفضل من ظروفنا، وأحوالها أحسن من أحوالنا.
لقد تعب المنتخب وهو سوف يرتاح بعد تعبه هذا.
يستحضرني هنا وأنا أتحدث عن تعب المنتخب السوداني وتأهُّـله توالياً لـ«الكان والشان» وتصدُّره لمجموعته في تصفيات كأس العالم في ظروف صعبة، صلاح أحمد إبراهيم، الذي كان يقول عن مسؤوليته نحو وطنه وهي مسؤولية لا تنطوي في (الهتاف)، ولا في (الشعارات)، وإنّما هي مسؤولية في المضمون وفي الحياة نفسها يقول صلاح في حوار صحفي:
حين أغمض عيني للمرة الأخيرة سأغمضها وأنا أهمس لنفسي، لقد اختار صلاح أن يقصر في حق نفسه من أن يقصر فيما رآه واجبه.. من أن يقصر فيما رآه حق شعبه وحق وطنه.
الراحة عند صلاح أحمد إبراهيم تتمثل في هذا الذي قاله في حواره بجريدة “السياسة” في 2 يوليو 1986، وهو كان وقتها يتعرّض للنقد القاسي حيث قال:
لا أحس قط بندم كما قلت، لكن حياتي هذه عليّ مزقها.. على ما فيها من مرارات.. ومن إخفاقات وما إلى ذلك، قدمت لي يقيناً لا يُقيّم بثمنٍ أو مقابل.. يقين الشجاعة التي يمتلكها هذا المسافر لوحده (شاق المفازة بليل).. كانت حياة خالية من المكر والخداع والغش والأنانية، بأفضل ما استطعته وسبحان المعصوم من الخطأ المبرأ من العيب. وهذا والله لهو الجمال بعينه.
وكان صلاح لا يأبه بأحد، حيث قال:
لا تهمني المرارات أو الحلاوات، المهم عندي الحقيقة، الحقيقة أولاً وأخيراً، والحقيقة دائماً والحقيقة فوق كل ما عداها.
أتحدّث عن صلاح أحمد إبراهيم، لأنّ الانتصارات تعيدنا إلى أصولنا، ولأن ما ينفع الناس يبقى حتى ولو كان صاحب هذا النفع رحل قبل أكثر من ثلاثين عاماً:
اسحقينا وامحقينا
تجدينا.. نحن أقوى منك بأساً ما حيينا
وإذا متنا سنحيا في بنينا
بالذي يبعث فيهم كل ما يبرق فينا
فلنا فيهم نشور
إنّني مازلت حتى وقتي هذا تلجمني الدهشة في (الفلسفة) التي وصل لها صلاح أحمد إبراهيم وهو يغني لطيره المهاجر (وكان تعب منك جناح في السرعة زيد).
هذه فلسفة عجيبة تفشل معادلات الفيزياء والكيمياء من أن تصل لها.. معادلة وصل إليها صلاح ـ كتبت عن ذلك كثيراً، عندما تتعب لا تقف.. عندما تتعب زيد من عملك.. زيد من سرعتك.. لأنّ هذه السرعة سوف تؤدي بك إلى ضل الدليب حيث الوطن.
وكان تعب منك جناح في السرعة زيد في بلدنا ترتاح في الدليب.. ضل الدليب أريح سكن.
هذا حال (الطير) مع وطننا الذي يجد فيه الراحة بعد التعب، كيف يا ترى حال بنيه الذين هاجروا وشُرِّدوا من بلادهم، وطُردوا من بيوتهم، وتغرّبوا في بلاد طيرها عجم. إذا كان الطير لا يرتاح إلّا في ضل الدليب، كيف يا ترى حال ناس مرقوا من هذه البلد وتركوا بيوتهم مفتوحةً وصوالينهم ضاربها الهواء؟
لا بُـدّ من العودة من أجل الراحة، فليس هناك راحة بعيداً عن الوطن.
ما أشق أولئك الذين خرجوا من البلاد وحنينهم وشوقهم وراحتهم فقط في (ضل الدليب).
من هذا، نستخلص أنّ منتخبنا تعب وتعب فتأهّل لنهائيات «الكان»، ثم تعب وتعب وزاد في السرعة فتأهّل إلى نهائيات «الشان».
ومطلوبٌ من منتخبنا أن يتعب أكثر، وأن يزيد السرعة أكثر حتى يرتاح في ضل الدليب ويصل إلى نهائيات كأس العالم.
حُلمنا الآن أصبح هو الوصول إلى نهائيات كأس العالم.
سوف نترك كل شئ ونبدأ في العمل من أجل اللعب في كأس العالم.
في مارس القادم سوف يُواجه السودان منتخب السنغال.. الانتصار على السنغال يعني أنّنا قطعنا خطوة أخرى في حُلم الوصول لكأس العالم.
الانتصار على السنغال يعني أنّ الحُلم يُوشك أن يكون حقيقةً، ويعني أننا سوف نُشاهد السودان في نهائيات كأس العالم.
سوف يُعزف النشيد الوطني هنالك، وسوف يُرفع العَلَمُ السوداني في محفلٍ، العالم كله ينظر إليه.
علينا أن نعمل بوصية صلاح أحمد إبراهيم، علينا أن نزيد السرعة، كلما زاد تعبنا.
بقي أن نقول إنّ الطالب عندما يتعب في الدراسة والقراية والمذاكرة برتاح في بقية عمره.. وصية للطلاب يسمعونها كثيراً ولا يعملون بها.. أتعبوا الآن عشان ترتاحوا بعدين.
أتعبوا ساعة.. ساعتين.. يوم.. يومين.. سنة.. سنتين ترتاحوا العمر كله.
حتى في فلسفة الحياة.. مرات في زول بكون تعبان وشقيان في الحياة عندما يموت بقولوا ليك والله مات ارتاح.. الزول دا تعب شديد.
عندما تتعب في العبادة وتخلص في الحياة الفانية لرب العباد ترتاح في الحياة الآخرة.
أتعب في دنيتك.. ترتاح في آخرتك.
…
متاريس
أتمنى أن تمثلنا في نهائيات «الشان» أسماءٌ شابّة وصغيرة وتُتاح لها الفرصة إلى جانب أسماء الخبرة التي لا بُـدّ من وجودها.
في الهلال والمريخ أسماءٌ شابّة يمكن أن تجعل مُستقبل المنتخب السوداني في السنوات القادمة مُشرقاً.
في الهلال مثلاً، هنالك الحارس محمد مدني ومازن سيمبو وأحمد عصمت كنن وياسر عوض جوباك وفخري سليمان والعثيمين.
وفي المريخ، هنالك حسين كانتي ومنذر ومصعب مكين وموسى وفداسي وشندي.
سليمان عز الله يبدع مع نادي النصر، وكذلك يفعل محمد المنذر مع الأخضر.. لكن للأسف لا يمكن الاستفادة منهما في نهائيات «الشان».
أمنحوا العناصر الشابّة الفرصة في بطولة «الشان».
كانت لفتة ذكية ومستحقة من رئيس مجلس إدارة الهلال هشام السوباط وهو يُشيد بمدير الكرة عبدالمهيمن الأمين، الركيزة المهمة في استقرار الهلال وانتصاراته.
…
ترس أخير: ح أكتب ليكم عن نهائيات كأس العالم.. جهِّزوا الجركانات.