أبوعاقله أماسا
* المسافة من أطراف الخرطوم إلى مدينة أبوعشر لا تزيد عن ١٢٠ كلمتر في الحد الأقصى، وتستغرق أقل من ساعتين من إسكان الثورة أم درمان في الظروف الطبيعية مع إعتبار الزحام المعتاد ولكنني قطعتها في يومين ذهاباً ومثلها إياباً، رحلة وجدت في نفسى هوى ومتعة لعشقي للمغامرات، خاصة أنها تزيد من المعارف، وبدلاً أن أتحرك جنوباً سافرت أولاً إلى مدينة شندي عبر ارتكازات الجيش ومنطقة وادي سيدنا العسكرية، ومن هناك إستغلينا سيارة دفع رباعي لمواطن بدت عليه خبرة السنين في طرق البطانة، فسلك بنا طريقاً نحو الشمال حتى اقتربنا من البجراوية قبل أن ينحرف يميناً إلى تخوم وادي الهواد، وكنت قد قرأت عنه في سلسلة كتبها الأستاذ عثمان ميرغني في صحيفة التيار وتقوسنا الطريق نحو أبودليق ومنها إلى الشرق عبر مجموعة من القرى لندخل مدينة تمبول من الشرق..في رحلة فيها الكثير والمثير سأعود إليها بالتفصيل، ولكنني سأبدأ من محطة متقدمة بدون ترتيب.
* وجدت كل مدن الجزيرة التي مررت بها أو وقفت فيها تغلي بالبشر، في زحام لم أره من قبل، فقد كانت من قبل هادئة ووادعة تخلد إلى النوم مبكراً ولا تحتمل صخب المدن الكبيرة، وكل منطقة لها عاداتها وتقاليدها والحياة فيها تسير كما يريد المحليين، ولكن بعد إندلاع الحرب طرأت مستجدات كثيرة لم يستعد لها أحد، فما حدثت من كوارث أكبر من إستيعاب عقل بشري عادي.. لذلك لابد من وجود أوجه قصور ومواقف مضيئة ومشرفة.
* ما رأيته في مدينة ود مدني هو الطوفان البشري بحق، حتى في المباريات التي لعبتها قمة الخرطوم امام قمة هذه المدينة في أوج عظمتهم لم تشهد شيئاً كهذا.. فقد فوجئت هذه المدينة بذلك بينما كانت تسبح في أحلامها هادئة وجميلة..!!
* مدني الجميلة المتأنقة إذا كانت تسع لمليون مواطن في الظروف الطبيعية، فهي تستقبل الآن عشرة ملايين من مواطني الخرطوم وقرى جنوب الخرطوم كلهم لاذوا إليها بحثاً عن الأمن والأمان.. وطبيعي أن تكون هنالك مظاهر سالبة ومآخذ لأن الحدث في تفاصيله غير عادي..!!
* هنالك قصور من الحكومة المركزية ومن الوزارات ذات الصلة وأولها بطبيعة الحال وزارة المالية ولولا أن عليها رجل يهتم بنفسه أكثر من إهتمامه بالشعب لكان دورها أكبر.. فما فائدة الخزانة في البيت الكبير إذا لم تجابه حاجة الناس؟.. وقصور كذلك من حكومة الولاية التي لم تبد أية رشاقة في التعامل مع الحدث، وبدلاً أن تبادر بحلول عملية تستوعب صدمة الحدث، أعلنت عن مشروع إسكان بقيمة فلكية في ظرف يهيم فيه عشرات الآلاف من الناس على وجوههم في طرقات مدني وبقية مدن الولاية يبحثون عن مكان يضعون عليه رؤوسهم للنوم والراحة وما يسد رمقهم ويطعمهم من جوع..!!
* في الحصاحيصا وفي مكان بنطون رفاعة سابقاً رأيت بأم عيني مجموعة تتخذ من (ظل لافتة) دعائية كبيرة وقديمة سقطت بفعل الرياح مأوى يحتضنهم وفي أماكن أخرى رأيت آخرين يتسولون، بنات في أعمار غضة، وأسر كانت محترمة وآمنة في بيوتها أصبحت مشردة تبحث عن المأوى والمأكل والمشرب.. ومناظر أخرى هي من مخلفات الحرب اللعينة المتوقعة.. لذلك كنت أرى لو أن حكومة (الكعوكات) هذه طلبت كذا ألف خيمة ونصبتها في أماكن آمنة لأزاحت الحرج عن آلاف الأسر المتعففة بدلاً أن يتركوها لمطامع الجشعين والمستغلين الذين يستثمرون في الأزمات ومعاناة الناس..!!
* مع تلك النماذج السخيفة التي جعلت الناس يتهكمون على الولايات ويصفون إنسانها بالإستغلالية والإنتهازية هنالك مئات الآلاف من النماذج المشرفة لمواطنين من ذات الولايات قدموا مبادرات في حدود إستطاعتهم.. وكثير من الأسر كانت ومازالت تأوي معها أضعاف ما تسعهم البيوت في الظروف العادية.. ولكن الكارثة أكبر.. وبمثل ما اهتم الناس بالسلبيات وعبروا عن المعاناة يجب أن يعكسوا الوجه الجميل وهو موجود دائماً..!!
* لاحظت أن الخوف والرعب يتسيدان الموقف، فالكل يدرك أن المتمردين مجموعات بلا أخلاق، ما أن تطأ أقدامهم قرية أو مدينة إلا وأهلكوا الحرث والنسل، ومع ذلك كانت الإشاعات تفعل أفعالها في الناس، إنطلقت إشاعة بأن هؤلاء التتار قادمون إلى الكاملين فهاجت المدينة والقرى والمدن التي حولها.. رغم وجود إرتكازات الجيش.. ربما لأن والي الجزيرة الهمام يتجاهل ما حدث في قرى شمال الولاية ولم يبد إهتماماً بما إرتكبه المتمردون في بتري والباقير والشقلة والجديد والنوبة والمسيد والمسعودية وكاب الجداد.. فكلها قرى تتبع لولاية الجزيرة..!!
.. نعود ونواصل..