صَـابِنَّهَا
محمد عبد الماجد
مُعاناتنا ستصبح مُجرّد ذكريات
مع أنّ الوضع حسب تقديرات كثيرين، وحسب ما يُشاع ويعرض على الشبكة العنكبوتية يبدو خطيراً، أو هو كذلك فعلاً، ولكننا نتجمّل أو نتصبّر وهو على رأي الأغلبية لا يحتمل المزاح وهو على الأقل كذلك من حيث التوجُّس والترقُّب والمُحتمل، وأنا أكتب من منطقة نزاعات بلغة فيها شئٌ من (الحنين)، والذي قد يُعتبر في مثل هذه المواقف شَـيئاً من الجنون والعيب، وإنّ قصدنا كما ظللت أذكر دائماً الخروج عن النص، عسى ولعل أن نجد ما بين السطور ما لا نجده في الواقع، والطيب صالح يقول: ويقولون إنّ الفن لا يُصوِّر الواقع ولكنه يُعيد صياغة الواقع.. مع ذلك لا بُـد من القول إنّ المدرسة الطبيعية في النقد والكتابة تشترط الالتزام بالأمانة العلمية.
في هذه المدرسة، قالوا إنّ الكاتب ينبغي أن يتجرّد من أهوائه وآرائه عند الكتابة كما يفعل العالم عند دراسة الظواهر الطبيعية.. وإنّ تعبيره عن الحقائق الاجتماعية والنفسية ينبغي أن يُصاغ في قالبٍ كقالب التعبير العلمي أو قالب المسائل الرياضية.. وأنا لا اتّفق مع هذه الجزئية المتمثلة في قولهم إنّ الحقائق الاجتماعية والنفسية ينبغي أن تُصاغ في قالبٍ كقالب التعبير العلمي أو قالب المسائل الرياضية. وفي سور القرآن الكريم قصة يوسف وقصة مريم وقصص موسى بتعددها وقصة أهل الكهف كلها صيغت في قالب اجتماعي وإنساني ونفسي مدهش، وهي تتحدث عن وقائع اجتماعية وحقائق علمية عجيبة. (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)) هذه الآية في سورة مريم قيل فيها الخير والبركة والدعوة للعمل والاجتهاد والتصوير اللغوي البديع الذي يشعرك بالحركة إلى جانب الحقيقة العلمية المتمثلة في جدوى (الرطب) للحامل ومن تولد الجنين.
الكتابة عن الحرب علّمتنا أن نكتبٍ بحذرٍ، ليس خوفاً على أنفسنا، ونحن نكتب من مناطق حتى الطير رحل عنها والطيف أيضاً (حتى الطيف رحل خلاني ما طيّب لي خاطر)، والبيوت يوماً بعد يوم أو ساعة بعد الأخرى تفقد أهلها وتُفرغ من محتوياتها.. نكتب بحذر لخطورة الكلمة وتأثيرها، حتى وإن كان تأثيرها على نطاق شخص واحد متفلت يحمل بندقيته أمام خمسين أو سبعين مدنياً أعزل، لا يدافعون عن أنفسهم إلا بالكلمة، أنا لا أؤمن بالقتال بالكلمة، لا أؤمن بالحرب بالكلمة، لأنّ الكلمة أشرف من ذلك وهي كانت دائماً للقتال بها من أجل السلام، لا من أجل الحرب من أجل الخير لا الشر ، البناء ، لا الهدم. هكذا جاءت الكلمة في كل الرسالات وفي كل الكتب السماوية وإذا حاولنا أن نستعرض ذلك فلن تكفينا المساحة ولا الزمن.. ولا خلاف أنّ الحقوق تُسترد بالقوة، لكن القوة يجب أن تُطبّق بالقانون والقانون يجب أن يأتي بالعدالة، حتى ونحن في ظل هذه الفوضى الضاربة، سوف أحاول هنا أن استعرض الحالة بشئٍ من اللطف وأنا كما أشرت أتلطف أو أتجمّل، وفي سورة الكهف هذا (اللطف) الذي أحدثكم عنه: (وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19))
هكذا قام أهل الكهف من نومهم بعد ثلاثمائة سنة أو أكثر والله أعلم بلطف (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا).
هذه مقدمة لن أخوض في تفاصيلها تلطفاً.
ونحن صغار كنا مولعون عندما نذهب إلى منطقة جديدة أن نكتب على الحيط والشبابيك والصهاريج والشجر الكبار، أسماءنا كذكرى خالدة، ننقشها بعناية فائقة، كنا نظن أننا كلما كتبنا أسماءنا في منطقة بعيدة ومرتفعة، الوصول إليها صعباً، كلما خلدنا ذكرانا أكثر.. مضت السنون واصبحنا ننقش ذكرياتنا على أغلفة القلوب، وأصبحنا مع ذلك سريعاً ما ننسى، ننسى المفتاح وشاحن التلفون، وننسى حتى أسماء ناس عزاز علينا.
ذاكرتنا أصبحت مثل (ترمسة الشاي) البالية لا تحتفظ بسخونة ما فيها.
وفي شغفنا، كنا نكتب ذكرى خالدة في كتاب الجغرافيا والتاريخ والمُطالعة والمحفوظات، وكنا نتحاشى أن نفعل ذلك في كتاب الرياضيات والإنجليزي، ربما خوفاً أو احتراماً، لا أدري، بعض الخوف شئٌ من الاحترام.
الشّـبه كتر علينا، بقينا نودِّر شارع البيت ورقم التلفون وأولاد الأقارب.
ذاكرتنا بقت «يبقى لحين السداد»، كان عمنا ود عمشوق يقول لنا ونحن أطفال منتشرون في الشارع مثل بقايا (الحكاوى): «أي حاجة بتنتهي زي ضل المقيل»!!
من دواعي قبولنا بالمُعاناة وترحيبنا بها، وأنا أكتب عن شئ منها في حدود المُتاح أو المسموح الكتابة عنه، إنّ تلك المُعاناة عاشها غيرنا في الخرطوم وفي الفاشر ومدني، والجزيرة عموماً، والجنينة والأبيِّض والهلالية، طولاً وعرضاً.. عاشوها بصورة أفظع، فما سمعنا عنهم شكوى ولا وجدنا منهم غير الصبر والاحتساب والرضاء بإرادة الله ـ نعم كانوا أكثر نبلاً منّا وأكثر جَلداً، ربما لا نضاهيهم إلّا في وطنيتهم التي حملوها رهقاً.
وهناك من قدّموا من أجل هذا الوطن أرواحهم وخرجوا من الحياة بالباب الكبير وهم يحملون أعظم ديباجة يُمكن أن تعطى لمن يُغادر الحياة، ديباجة (الشهيد) ـ الذين رووا الأرض بدمائهم، هؤلاء هم فوق قدراتنا للكتابة عنهم أو التعليق عليهم، مع إيماني أنّ المواطن السوداني ظَلّ يدفع في كل الأوقات، الثمن بسبب حكومات طائشة لا وجود لسلطاتها إلا في معاناة المواطن. تختلف الرؤى والآراء ولكن في كل الأحوال ليس هناك أعظم من الشعب السوداني الذي كلما ظنوا أنه انتهى قام بثورة أدهشت الجميع.. لقد ظَـلّ الشعب السوداني يدهشنا ويفرحنا ويسرنا حتى في الحروب.
نحن فخورون بأنفسنا في كل الظروف والأحوال. ولنا القدرة بأن نشعر بالسعادة حتى ونحن في أسوأ اللحظات.
لا أقول إنّني نستمتع بمُعاناتنا، ولكن أقول إنّها تكفر عنّا وتجعلنا ندفع فواتير الانتماء للوطن، وهناك من دفع تلك الفواتير من دمه وروحه وحياته، بعضهم مضى دون أن يسمع كلمة شكر وهو يقدم حياته، وأولاده الخمسة.
سمعت في تقرير إخباري في إحدى الفضائيات أحد ضحايا منطقة الهلالية يتحدث عن أنّه فَقَدَ من أسرته 35 فرداً مرة واحدة، منهم من مات بالرصاص، ومنهم من مات مسموماً، ومنهم من مات بالكوليرا، ومنهم من مات جوعاً، ومنهم من مات كمداً، أمّا فهو فقد كان ينتظر في ثباتٍ وقُــوة جأشٍ، بعد أن مات 35 فرداً من أسرته. نحن ماذا فقدنا غير قهوة الساعة الثامنة صباحاً وعمود الصفحة الأخيرة، نعم إنّ مُعاناتنا مُقارنةً بمُعاناة غيرنا لا تساوي شيئاً وإن كان الأثر النفسي واحداً عند كل أبناء الشعب السوداني، فمن لم يعش المُعاناة بصورة مباشرة، عاشها بصورة أعظم بسبب إحساسه بمُعاناة غيره.
مع ذلك، دعوني أكتب عن مُعاناتنا والكتابة الشخصية في مثل هذه المواقف حميدة، ومستحبة ، باعتبارنا شُهوداً على الحدث وشركاء في المُعاناة، وفي كل الأحوال يبقى انتظار الكارثة أسوأ على النفس من وقوعها، وترقُّب الخطر أخطر من الخطر ذاته، وهذا هو عين ما نعيشه.
نحن نعيش في حالة تربُّص تصل لدرجة أن تشك في وشوشة الريح في الباب ـ الوشوشة التي قال عنها إسحاق الحلنقي عندما كنا نغفو لو وشوش صوت الريح في الباب يسبقنا الشوق قبل العينين.
الآن أصبحت الأرواح هي التي تسبق.
في الأيّام الأولى للحرب، كنا نخرج حجارة الريموت نعضها ثم ندخلها لتشغيل الريموت، ظللنا نمارس هذه العادة في الأيام الأولى للحرب، ثم أصبحنا من بعد نعض “صباعنا” حسرةً وندماً على ما نشاهده على الشاشة من خرابٍ ودمارٍ.. لم تعد الحجارة قادرةً، ولم تعد تحتمل، لذلك اتجهنا إلى “صباعنا”.
في هذه الحرب وفي هذا الركام عَــزّ علينا البصل ورائحته، أصبح الواحد فينا عندما يدّشأ بصلاً يحسد على ذلك. اشتهينا أن نغسل أيدينا بعد تناول الوجبة، لأنّ كل ما نتناوله نقش آثاره في كم الجلابية، الأمر لا يحتاج إلى صابونة، وهناك من لا يجد حتى إلى ذلك سبيلا، فهو ليس في حاجة إلى ذلك لأنه لا يأكل شيئاً، ولا أثر من اللا شئ.
عجبت من صبر أولئك الناس ومن تعففهم الذي يمنعهم حتى من الشكوى والتضرع أمام الناس، أشهد لهم بذلك فقد قابلوا الجوع والتفلُّتات الأمنية بصَبرٍ وجلد، وثَباتٍ يحسدون عليهم.
حدّثونا عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس). متفق عليه.
اشتهيت في هذه الحرب أن اتصل بصديق فيرد عليّ بأنه في مناسبة، ثم يضيف: “برجع ليك بعدين”.
اشتهيت أن ألبس قميصاً مكوياً مكوة (موس)، أعد به كوبري النيل الأزرق في الطريق إلى الخرطوم.
مشتهي أمشي لي صاحب أو قريب في البيت وعندما لا أجده أكتب على الباب (حضرنا ولم نجدكم).
البيوت الآن نفسها غير موجودة، أو على الأقل (الأبواب) وأثاثاتها وليس أصحابها فقط.
أعرف أنّ كل شئ سوف يعود إلى أصله، وأنّ البيوتات القديمة سوف تشع من جديد بالفرح والمرح والأنس، ولكن حتى لا نعود إلى ما نحن فيه الآن، علينا أن لا نعود بنفس الطريق الذي خرجنا به، يجب أن تتغيّر مفاهيمنا، علينا أن نتّعظ من هذه الحرب، ومكسبنا الأول وربما الأخير في هذه الحرب هو أن نتّعظ منها.. إذا خرجنا منها بغير (اتّعاظ)، فإنّ بيوتنا لن تكون هي الوحيدة التي خُربت ودُمِّرت وسُلبت، بل سوف تكون عقولنا وقلوبنا أيضاً.
المرحلة القادمة هي مرحلة بناء وطن، ليس هي مرحلة بناء المنزل أو إعادة تشييد البيت.
الخراب الذي طال الوطن، أضعاف الخراب الذي طال البيوت والأوطان، تُبنى بالعقول والقلوب السليمة والنظيفة.
النفوس المُطمئنة هي النفوس المبشرة لا النفوس المُهتزة والمُزعزعة واللوامة!!
من حكمة الله ومن عدالته أنّه جعل المُتعة واللذة في كل شئٍ، عدالة السماء ساوت بين الناس في ذلك، من يملك ومن لا يملك سيان في هذا الأمر، الرجل الذي يأكل عدساً أو كسرة بملح إذا وجدها بعد عناء فإنّه يجد فيها مُتعة ولذة قد لا يجدها الذي يأكل من اللحوم والطيبات في أعظم مطاعم باريس.
غلاة الشئ ونُدرته تصنع حلاوته ولو كان (دَقَلاً).
والدقل بفتح الدال والقاف نوعٌ ردئٌ من التمر.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من (الدقل) ما يملأ به بطنه.
هذا رسول الله أعظم الخلق، لا يجد دقلا، فماذا نساوي نحن إذا جُعنا أو متنا؟
إذا أتيت إلى فراشك بعد تعبٍ وجهدٍ، سوف تجد الراحة التي يجدها من ينوم في أفخم فنادق إسطنبول ولو كان فراشك في الصّقيعة.
هذه عدالة سماوية.
شمعة بسيطة يمكن أن تأخذ منها حاجتك في النور بما يوازي النور الذي توفره الكهرباء والمولِّدات العالية.
في هذه الحرب التي نفقد فيها الطعام والكهرباء والماء وخدمة الإنترنت والأمن، ننتظر مواجهة الهلال والمريخ، وعندما أتحدث عن ذلك لا أتحدث عن نفسي فقط، وإنما أتحدث عن الكل وهم ينتظرون مباراة القمة ويتناقشون حولها، وكأنهم وهم يتحدثون عن مباراة الهلال والمريخ، الحرب الدائرة الآن في مناطقهم لا تعنيهم في شئٍ، ينسوا كل أوجاعهم وآلامهم وأحزانهم.. ينسون خوفهم وجوعهم ويتجادلون حول المباراة.
وأنا عندما أتحدث عن المباراة لا أعرف إن كان سوف يكتب لنا متابعتها أم لا؟ لا نعرف إلى أين ستقودنا الأقدار حينها، ولكن في كل الأحوال ننتظر مباراة القمة بتفاصيل خاصة وأوضاع وحالة زادت من حالة التشويق والإثارة، حتى لو لم نتمكّن من متابعتها فإنّ في عدم المتابعة أيضاً مُتعة.
في كل شئ هنالك مُتعة، حتى في المعاناة، وفي تلك الحالة الصعبة.
يقول سبحانه وتعالي:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)) الأنبياء. نعم (لا أله إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
ولا أزيد.