أبوعاقله أماسا
* هنالك من سرقوا محاصيله، بعد موسم من الكد والتعب والسهر، وهنالك من سرقوا بهائمه التي رعاها وأفنى فيها زهرة العمر، ومن تعرضوا للضرب والتعذيب والإنتهاكات والإهانات.. وآلاف الأرواح البريئة التي أزهقت بلا ذنب إرتكبوه أو حتى رغبة في معرفة من سيحكم السودان.. ففي جزيرتنا الخضراء كانت هموم معظم البسطاء تنحصر في كيف يكسبون (بالحلال)، وكيف يكرمون الضيف ويصلون الأرحام، معظم القرى لا تسمع باللصوص والحرامية إلا في فترات متباعدة إن وجدوا.. ومعظم الأبواب مفتوحة لا تغلق أبداً.. وتتميز كل مناطق الجزيرة بثقافة (الديوان)..وهو جزء من البيت يخصصونه للضيوف وعابري السبيل، يظل مفتوحاً ومفروشاً ويطل صاحب المنزل عليه فجر كل يوم عسى أن يكون أحد عابري السبيل قد قضى ليلته فيه، وبعدها يتسابق الجميع لإكرامه، فيجتمعوا عنده بصواني الشاي واللبن ويتعرفون عليه، وفي الغالب لا ينتهي الكرم بجلسة الشاي.. مليشيا الدعم السريع غيرت كل ذلك في أيام معدودات، فتحولت الحياة الهانئة والهادئة الوديعة إلى كابوس لا يكاد ينتهي، ولا يمر يوم دون أن يتناقل الناس حكايات وروايات من أصناف الرعب الذي يذكر الناس بقوم مفسدين ذكروا في القرآن الكريم، وأنواع من البشر لا (يرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمة).
تغيرت حياة الناس خلال الأربعة أشهر الماضية، وخرج عشرات الآلاف مهجرين من قراهم مكسوري الخاطر، وهم الذين برعوا في جبر خواطر أهل السودان، وسيروا من قبل قوافل الإغاثات وكانوا سباقين لفعل الخيرات، لا يرضوا الأذى لأحد، وأصبح الغبن الآن السلعة الأوفر لدى من تبقى في كل قرى الجزيرة مع إحساس لا يوصف بالظلم والقهر.. وكل هؤلاء منتظمون في صلاتهم.. يجأرون بالشكوى إلى الله ويكثرون من الإبتهالات والدعوات ويرفعون مظالمهم… فهل ترد دعوات المظاليم.. لا..لن ترد دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الخالق حجاب أبداً وسوف تستجاب ولو بعد حين..!
* أروي لكم وقائع قصة حقيقية بعض أبطالها أحياء يرزقون.. وقد حدثت قبل أيام في محيط مدينة المعيلق بمحلية الكاملين كنموذج لدعوات المظاليم..!
* قبل أيام فقط حكي لي أحد الجيران عن بن عمه (عيسى) وهو رجل بسيط تخصص في تجارة بعض الأشياء الصغيرة في سوق المعيلق.. يحمل حقيبته التي تحتوي (إبر الخياطة، الأمشاط، المسلات، المراويد وغيرها من إحتياجات الأسر) يحملها ويمتطي دابته يوم السوق متوجهاً من قريته (بت الحاج) إلى المعيلق، وبعد نهاية السوق يبدأ رحلة العودة مجدداً إلى قريته..!!
* ظل (عيسى) مواظباً على هذا البرنامج منذ أن كان شاباً وحتى بلغ من الكبر عتياً وأصبح شيخاً يعلوه الشيب ويكسوه الوقار.. حتى جاء اليوم الذي توقف أمامه إثنين ترجلا عن دراجة بخارية ووقفا أمامه وهما يخاطبانه: يا عمك.. إنت كوز موش كده؟
* إستغرب بطل قصتنا من سذاجة الإتهام وعدم المنطق، فقال لهم: أنا لو كوز معناها إنتوا ما بتعرفوا الكيزان..!
* أصر الشابين أن عم عيسى كوز، وجرداه مما يحمل وسط رجاءات من معارفه بألا يبدي مقاومة حتى لا يؤذوه، إلا أنه طمأن الجميع وإكتفى برفع يديه إلى السماء مستغرقاً في الدعاء وقد وصل مرحلة الإنفجار من الظلم والقهر ولم تعبر عن حالته سوى دمعات نزلت على خده المتعب..!!
* تحرك الشابان ولم يلبثا ساعة أو أقل حتى جاء الخبر تعرضا لحادث حركة عند السكة حديد، وعند سقوطهما ضرب أحدهما رأسه بالقضيب وفارق الحياة فوراً، أما الآخر فقد صادف عند سقوطه السكين (السونكي) التي كان يحملها فطعنته في بطنه حتى خرجت من الناحية الأخرى.. فصارع سكرات الموت حتى فارق الحياة من فرط ما نزف من دماء..!
* وصل (عيسى) رفقة مجموعة من رفاقه بالسوق وراوا ما حدث وقد تناثرت المنهوبات على الأرض… وما كان منه إلا والتقط ما يخصه فقط وترك ما تبقى منها ملقاة على الأرض أمام جثث ناهبيها..!
* نحسب أن سكان الجزيرة من مدنها وكل قراها وفرقانها رجال صالحون، وسوف تستجاب دعواتهم على ذات النسق.. ربما يؤخر الله ذلك إلى أجل مسمى.. ولكنها مستجابة لا محالة لأنها دعوات مظاليم أخذوا على حين غرة مغدورين ومهورين.. فرفعوا الأكف إلى الله صادقين لينصرهم ويأخذ من اعتدى عليهم أخذ عزيز مقتدر..!!
* الجزيرة تشهد شكلاً من الفوضى التي لم تشهد لها البشرية مثيلاً في التأريخ.. والإنتهاكات تجاوزات كل التوقعات.. وأكثر من أدهشني شخصياً أن معظم الذين انضموا للدعم السريع مستنفرين في الجزيرة هم سكان (الكنابي).. ولو تذكرون ما كتبته من قبل عن هذه الكنابي وأنها تتكون من نازحي القبائل الدارفورية التي هجرت بأفعال (الجنجويد) الذين حرقوا قراهم وقتلوا النساء الحوامل والأطفال والشيوخ ونهبوا الأموال واحتلوا الحواكير.. وأن ينضم شباب هذه القبائل لذات المكون مهما حسنت صورته دليل على الفراغ والفاقة.. ولأن ماحدث أمر جلل وعظيم فإنه لن يمر بدون أن يكون له ما بعده.. نسأل الله اللطف..!!
يمهل و لا يهمل.
اللهم خفف عنا البلاء و لا تفتنا في ديننا،،،، و الكل بعد ذلك يهون.