صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

نِتلاقَى في إستاد الهِلال

264

صَـابِنَّهَا
محمد عبد الماجد

نِتلاقَى في إستاد الهِلال

قُلت مراراً وتكراراً، إنّي أتجنّب الحديث عن مرارات هذه الحرب، فنحنُ لا تنقصنا مرارات حتى نُوثِّقها ونُكرِّرها ونكتب عنها، لا أقول تجاوزوا مراراتكم عن لا مبالاة، ولكن أقول لا تقفوا عندها، لأنّ الوقوف عندها ستبقى مرارته علينا أكبر من (المرارة) نفسها التي نتوقّف عندها.
الزبد يذهب جفاء، وسوف تذهب هذه المرارات كما يذهب الزبد ويبقى فقط ما ينفع الناس، سيبقى لنا منها ما نتعلّم به، ولو فشلنا في كل شئ وخرجنا من هذه الأزمات بالصَّبر والجَلد، فهذا مكسبٌ أعظم وأكبر من كل المرارات.
لا تعطوا للمرارات شرف أن تتحدّث باسمكم، وأن تصبح لكم واقعاً، وأن تصبغ على حياتكم لونها القاتم، فهي تبقى (زبداً) وإن عظمت.
من قال لكم إنّنا يمكننا أن ننتصر بالهتافات والشعارات والبوستات التي تنتظر الحدث لتعلق عليه.
من قال إنّ الشتائم والسباب سوف تأتي لنا بحقوقنا وسوف ترد لنا كرامتنا.
لا تجعل خصمك يجرّك إلى أسلوبه، لأنه لو نجح في ذلك فسوف يكون بذلك طلع أول العتبات في سلّم الانتصار عليك.
لا تتحدّث ولا تنظر إلى جراحك الخاصّة في حال جراح الوطن.
عندما تكون الأزمة أزمة وطن، من العيب أن تقف عند أزمتك. صحيحٌ أنّ أزمة الوطن تبقى في النهاية أزمتك أنت.. لكن مع ذلك عليك أن لا تخلط فتقدم الخاص على العام.
يحزننا كثيراً أن نرى الوطن مجرد أشلاء، تتمزّق أطرافه، بل تتمزّق أحشاؤه، ولكن نتغلّب على هذا الحُزن بأنّ بعض الفواتير تدفع ثمنها مُقدّماً.. ندرك أنّ المنطق سوف يتتصر أخيراً.. وإنّ الخير لا بد له أن يتغلّب على الشر.
يُخيّل لي أنّ هزيمتنا تتمثل في أن نستسلم لهذا الواقع، وأن نُوثِّق لهذه الأحزان. العدو لا يشعر بانتصاره إلّا عندما يرى آثار الهزيمة في خصمه، إنّهم لا يريدون غير أن يروك عاجزاً ومُنكسراً وأنت تشكي لطوب الأرض، (أتحدّث عن العدو بصورة عامة)، إذا وجدوك ثابتاً وغير مُبالٍ بتلك المرارات سوف تنعكس المرارات عليهم.. الشماتة هي الاستمتاع برؤية شخص في حالة وجع والتشفي بذلك.. وهي تصبح مرضاً نفسيّاً عندما تجعلك شخصاً (سادياً) يتلذّذ بعذاب الآخرين.
مطلوبٌ منّا في زحمة هذه الأوجاع، أن نكتب عن بصيص الآمال.
البصيص هو النُّذر القليل من الأمل.
لا تيأس.. فالمرض يدخل عليك عن طريق اليأس.
والموت يدخل عليك عن طريق اليأس.
والفقر، والفشل، والهزيمة.. كل هذه الأشياء تدخل عليك عن طريق اليأس.
وفي العادة، اليأس يصيبك من الواقع ومما يحدث أمامك ومما يفعلون، لذلك قال تعالى لنبيه نوح في سورة هود: (و أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) (36)
نحن لا نصنع أقدارنا.. نحن نصنع أحلامنا.. لماذا لا نحلم بغدٍ مشرق.. من يملك أن يُجرِّدنا وسط هذه العتمة من أحلامنا؟
أعيد لكم ما قاله طه حسين:
اليأس من الوطن يهدر الكرامة، واليأس من النفس يسقط الهمة.
ونحن نكاد أن نصل لهذه المرحلة.
عندما تجلس مع مريض نسبة هلاكه بهذا المرض وموته تصل إلى 99%، فإنك سوف تظل تحدثه بشئ من الأمل عن نسبة النجاة والشفاء التي لا تتجاوز الـ1%، وأنت عندما تفعل ذلك لا تنافقه ولا تخادعه، وإن انعدمت النسبة تماماً ووصلت نسبة الهلاك إلى 100% سوف تظل تحدثه عن رحمة المولى عز وجل التي لا تنقطع عن عبد عرف الورع والتقى والإيمان.
كل الأبواب قد تغلق في وجهك، إلا باب الرحمة سوف يظل مفتوحاً دوماً، لأنه باب لا يُغلق.
وإذا كان هنالك ظلامٌ دامسٌ سنكتب عن بقعة ضوء، تتسرّب من خلال الحلكة ولو كانت مجرد خيال، والزاماً عليك وليس تفضُّلاً أن تكتب عن شمعة تصارع الرياح والظلام لتبقى متقدة. لا تكتفوا بلعنة الظلام، لأنّ اللعنات لن توقد لكم الشموع.
وإذا سقطت طائرة في متنها 320 راكباً لم ينجُ منها غير راكب واحد، فإنه من الحكمة ومن الكياسة والرضاء بالقدر والصبر على المكروه أن تكتب عن هذا الراكب الذي نجا وليس عن 319 راكباً هُلكوا جميعاً.
أنت هنا تكتب عن معجزة، وهي نجاة راكب من ضمن الركاب الذين أفنوا جميعاً.
بصورة عامة ـ هل النجاة في زماننا هذا أصبحت معجزة؟
وإذا عاد الطالب يحمل نتيجته وهو راسبٌ في كل المواد إلّا مادة واحدة، رجاءً حدِّثه عن تلك المادة التي نجح فيها، فبها ينتصر وبها يبني وينطلق، أنت عندما تحارب، تحارب بالأدوات التي تنجح بها، لا الأدوات التي فشلت فيها، وهذه الحياة حرب طويلة، الانتصار فيها لن يكون لمن ينتصر، وإنما لمن ينهزم ويلتزم السلوك القويم والأخلاق الحميدة والعمل الصالح، وهذه أدواتٌ تؤدي تلقائياً للانتصار حتى لا تختلط عليكم الأمور وتشتبه عليكم الهزيمة.
في الثابت أنّ لحظات الفرج تأتي بعد أن نصل إلى قمة الانسداد.
عندما نصل إلى قمة العسر، علينا أن نعلم أنّنا نقترب من اليسر.. فلماذا لا نفرح عندما يشتد الضيق فهذا دليل فرج.
في بلدنا، فقد الناس كل شئ، إلّا عشمهم في المولى عز وجل، وهذا كل شئ.. ماذا تريدون بربكم أكثر من ذلك؟ أنتم عندكم كل شئ.
إنّها الحياة أو هي القصة أم درمان كما كتب عبد المنعم عبد الحي وغنى حمد الريح (بين اليقظة والأحلام). الأغنية على ما أظن من ألحان عبد اللطيف خضر ود الحاوي.
أدخل بكم على أم درمان، لأنّ فيها متسعاً.
بصوت (أوبرولي) هرمي غليظ، كان الكمسنجي ينادي على المارة أم درمان الشهداء.. شهداء.. شهدااااااء، وكان يمد الألف حتى يكاد أن يوقف حركة المرور، (وقتها لم ننتبه للكمسنجي، ولم نكن نعرف أنه كان يقرأ من صحيفة قادمة، ولم يكن ذكاؤنا يسعفنا لندرك ما بين السطور)، وكان بين فينة وأخرى، يقف أمامه راكب (شبكة) ليسأله: أم درمان بالأربعين أم الموردة؟
أم درمان تشبّعت بتلك الثنائية العجيبة، أم درمان الإذاعة والتلفزيون.. قيل ثم من؟ قيل: المسرح القومي.
أم درمان الهلال والمريخ. قيل ثم من؟ قيل: الموردة.
أم درمان كل شوارعها تؤدي إلى بيتك، لأن أي بيت فيها بيتك، لذلك بينك وبين أي شارع فيها إلفة وعُشرة ومُلاح.
كم كان يطربني ذلك الكمسنجي وهو يصيح أم درمان.. أم درمان وهو يشير لعربة تبدو من الوهلة الأولى على أنها من آثار الحرب العالمية الأولى.
هل كنا نعشق أم درمان لهذا الحد الذي يجعلنا نطرب لذلك الصوت الذي كان ينادى أم درمان.. أم درمان، وكأننا نسمع عبد العزيز محمد داؤود، وهو يغني طال هجري يا أم در أمان، أذكر دلالة على ذلك إنّنا كنا نتكوّم في تلك العربة مثل كوم (الكمونية) في ركن قصي وندفع تعرفة المواصلات كاملة لكي نذهب إلى أم درمان ـ ساكت كدا بدون غرض، وبدون موضوع، نطوطح في سلم العربية ونقرب نقع عشان نشم عبق أم درمان الذي لا يُقاوم.
من أين جاءنا ذلك الحُب لأم درمان؟ ليس بيننا وبينها علاقة تُعلِّل هذا الهوى.. ما في حاجة ظاهرة.. غلبنا الهوى.
هي أم درمان هكذا لا تستطيع أن تكون في جوفها إلا درويشاً.
هذه ليس عُنصرية أو تحزباً لأم درمان، لأنني في أم درمان أشعر بشندي وأم روابة والدلنج والأبيِّض وكسلا والفاشر وعطبرة ومروي وود مدني.
ونحن في حافلة قديمة مثل (الفضية) متجهة إلى أم درمان تحدث 36 مشكلة بين الركاب والكمساري تارةً، وبين الركاب والسواق تارةً أخرى (الحافلة مُشمّعة)، كل هذه المشاكل تنتهي بعد أن نعدي كوبري النيل الأبيض وندخل أم درمان وأنت شمالك قصر الشباب والأطفال، ويمينك المجلس الوطني.
تنتهي كل المشاكل بعد أن يرد الكمساري لنصف الركاب قروشهم وهو يقول لهم خالص، فقد دفعوا لك حق التذكرة.. والسوّاق نفسه عندما يدخل أم درمان تنتزع منه روحه الشريرة ويصبح مثل الملاك الطائر وهو يقول للكمساري البقول ليك ما عندي خليه، ما تشيل منه، وعمّتك ديك رجِّع ليها قروشها.
نخش أم درمان نشم ريحة السمك نفرهد زي (زهر المواسم) الذي غنّت له عائشة الفلاتية، وعائشة الفلاتية تمتلك صوتاً يمكن أن تفتح به إنجلترا بدون أن تطلق رصاصة واحدة.
دي حاجة ما بتغالط فيها.. صوت عائشة الفلاتية بخلِّي القميص مكوي بدون مكوه.. كم كُنت أطرح قميصي بهذه الحيلة بدون أن أولع مكوه الفحم.
الموضوع دا يشهد عليه قميصي المكرفس الذي كان يكلفني بالمعدل الطبيعي ملوة فحم، (في قمصان قدر ما تسخِّن ليها المكوه ما بتطرح).
وصوت عائشة الفلاتية متل ورق السجائر الرقيق، حاجة كدا زي غزل الحرير.
وصلنا أم درمان، اتّجهنا نحو استاد الهلال بعد أن وقفنا أمام تربيزة موز فتزوّدنا من موزه العسل، واشترينا فول سوداني وتسالي ووقفنا شوية في ركن الإستاد.
الناس تلف حول الإستاد، كأنها تبل أشواقها، تقيف مع أي زول، 50 ألف مشجع أي واحد منهم بتحس أنك بتعرفو وبعرفك، تتحدّثوا عن مواضيع تؤكد ذلك، تتكلموا عن ذكرياتكم وأيام الدراسة والجامعة وإنتو أوّل مرة تتقابلوا.
تشربوا الشاي، والشاي جوار إستاد الهلال عنده طعم آخر.. قدر ما يكبوا ليك تشرب.
الناس هناك بتضحك وتتونّس، لا بتتحدّث في سياسة ولا في اقتصاد ولا في مشكلة.. كلهم بتحدّثوا لغة واحدة.. بتحدّثوا عن الكورة وفي الكورة بتحدّثوا عن الهلال.
لغتهم واحدة، وشبهم واحد، ودمهم واحد، ومشكلتهم واحدة، وفرحتهم واحدة، وظروفهم واحدة، إستاد الهلال يُوحِّد كل هذه الأشياء لتصبح شيئاً واحداً.
لامن الهلال يدخل يسخِّن بتشعر كأنك بتلاقي ليك في زول عزيز بعد طول غياب (الحبيب العائد).
الفتر يمرُق من جسمك، وتنتعش بالفرحة والسعادة، وحالة الفلس تتلاشى.
تبدأ المباراة تنسى نفسك وتنسى كل حاجة وتعيش في المباراة.
هنالك في إستاد الهلال في مقعد مضئ بصاحبه، كنت التقي بالشهيد اللواء الصادق يوسف عضو مجلس إدارة نادي الهلال الذي مات في معتقلات وسجون قوات الدعم السريع بعد أن ظل حبيسها قرابة العامين.
الأكيد أنه عانى ما عانى حتى فارق الحياة رهقاً.
كان الصادق هادئاً وباسماً وهلالياً قحّاً، تجده في المدرجات الشعبية مع الجماهيره ولا تجده في الصحف والإذاعات، حتى مقعده الوثير مقعد أعضاء المجلس في المقصورة الرئيسية كان لا يجلس فيه.. كان يجلس بين الجماهير، يشجع وينتشي عندما ينتصر الهلال وكأنه طفلٌ صغيرٌ وهو وصل إلى رتبة عليا في القوات المسلحة.
لم يتبدّل الصادق يوسف بعد أن أصبح عضو مجلس إدارة الهلال عبر الانتخاب، وظلّ مقعده في المدرجات يستقبله في كل مباريات الهلال قبل أن يصبح عضو مجلس إدارة، وبعد أن أصبح عضو مجلس إدارة.. والأكيد أنّ الرجل لم يتغيّر ولم يتبدّل حتى وهو في المُعتقل، أراهن أنه ظلّ مُحتفظاً بابتسامته حتى فارق هذه الفانية.
إنّ وجعتنا الكبيرة وحزننا العظيم في هذه الحرب، إنّها أفقدتنا أعزاءً وأصفياءً مثل اللواء الصادق يوسف.
اللهم نسألك له الرحمة والمغفرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
………
متاريس
الأكيد أنّ هذه الحرب سوف تنتهي ويعود الجميع.
نحن في وقت الامتحان.
نسأل الله السلامة للوطن ولشعبه.
……….
ترس أخير: كم فقدنا عزيز.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد