صَابِنّها
محمد عبد الماجد
هاشم صديق.. الرجل الذي عاش بعد موته
عندما أكتب عن هاشم صديق، أحب دائماً أن أقول إنّ ثورة أكتوبر المجيدة انتظرت هاشم صديق أربع سنوات، ليكتب عنها ويقدم (الملحمة) التي تعتبر أعظم وثيقة لثورة 21 أكتوبر 1964.. انتظرته الثورة أربع سنوات لأنها عندما تفجّرت وانفجرت في عام 1964م، كان هاشم صديق صغيراً، حيث تغنى محمد الأمين بالملحمة في عام 1968 في الذكرى الرابعة للثورة المجيدة، يومها كان هاشم صديق مازال صغيراً بقميص بأكمام قصيرة يجلس في المقاعد الخلفية في المسرح القومي بأم درمان، بينما يجلس في الصفوف الأولى السادة الوزراء والأجلاء الضيوف من أعيان البلد والوجهاء.. كان بحكم سنه يجد هاشم صديق حرجاً في أن يجلس بين الأكابر في الصف الأول، لذلك فضّل الانزواء في الصف الأخير، بين عامة الناس، والثورة تحتفي بقصيدته والمسرح يغلي كالمرجل بكلماته.
الجلوس في المقاعد الخلفية، نوعٌ من التواضع الذي يُعرف به أهل الإبداع، دائماً هم في حالة تخفٍ وزهد من الظهور والنجومية.
كانوا عندما يسألون عن صاحب الكلمات ومحمد الأمين بسطوة صوت عملاق يتغنى بالملحمة، كانوا يشيرون على شاب صغير في مقتبل العمر لا يدري بقيمة كلماته (وكم في الخطوة بنلقى شهيد بدمه بيرسم فجر العيد)، محمد الأمين بصوته الفخيم والمعطر، كان يجعل الثورة حاضرة في هذا المكان، وكان خليل إسماعيل وعثمان مصطفى وبهاء الدين أبو شلة وسمية حسن وأم بلينا السنوسي، يرددون المقاطع بصوت الشعب، تخرج أصواتهم مثل النسمات في هجير نهار ساخن.
وكان صوت ود اللمين مثل ألف ليلة وليلة فيه كل شئ. أول مرة حضرت فيها حفلاً لمحمد الأمين في نادي الضباط وجدت أنّ قامتي تزيد 25 سم طولاً، خرجت من نادي الضباط أغازل النجوم.
الملحمة لم تكن في الثورة فقط، الملحمة كانت في الكلمات وكانت في اللحن وكانت في الأداء.. كان السودان قادراً على إنتاج ملاحمه في كل المجالات.
في تلك السن المبكرة، كتب هاشم صديق (الملحمة) لم يسبقها إلا بأغنيته (النهاية) ـ يوم في يوم غريب، فيه الشمس لمت غروبها وسافرت ـ التي تغنى بها سيد خليفة وهاشم صديق وقتها لم يكمل السابعة عشر عاماً. لاحظوا أن هاشم صديق كانت (البداية) الفنية والإبداعية عنده من (النهاية)، بدأ من القمة. ثم كتب الملحمة ليبقى في القمة.
مثل محمد يوسف موسى الذي كتب (فات الأوان) لصلاح ابن البادية وهو لم يتجاوز الـ23 عاماً. أي أوانا فات وهو في بدايات الشباب وفي سنوات التدفق والانفتاح والآمال والطموح.
وهذا يجعلنا نقول إنّ التجاني سعيد كتب لمحمد وردي (من غير ميعاد) وهو طالبٌ في الثانوي. الأغنية قدمها وردي في 1969م.
كل هذه الأعمال كانت ملاحم.
بعد غياب هاشم صديق لن تكون كتابة الشعر إلا (تيمما)، ففي غيابه تغيب (الكلمة) الجزلة والعبارة الذكية والموسيقى الشعرية، والقصيدة التي تسمو، لذا نحن هنا نعزي الشعر ونعزي الوطن والشعب. هاشم صديق بمثابة (الماء) في الشعر، لا أقول غيره (تراب) ولكن أقول في غيابه يتيمم الشعر أو يتأتم.
كان هاشم صديق (ملكاً) دون ملك، سلطانه كلمته، وحكومته حروفه، وكان طبيباً تداوي كلماته الجراح بدون مشرطٍ، كان كهربائياً تنير شوارعنا بضحكتها، كان معلماً ومهندساً ومحامياً وطياراً.
كان شاعراً عندما كتب عن (القرنتية) خرجت من بحرها تتمطأ، وعندما كتب عن (وارغو) تبادلنا أشعاره مع تحايا السلام. وصارت كرة القدم هي اللغة الرسمية للبلاد بعد أن كانت اللعبة الشعبية الأولى في العالم.
تبادلنا في بطاقاتنا الغرامية كلماته (عيونك ديل عيون أهلي حنان زي نغمة في مقطع) وصارت بيناتنا مدخل للتعارف، بل جعلتنا بمنطق التشابو والحنك السنين (أهل).
كانت اللواري مكتوب في خلفياتها (حاجة فيك)، وكانت (البرينسيات) يكتب فيها بخجل واضح (اضحكي). كان كلام للحلوة وحروف اسمك والوجع الخرافي وأذن الأذان وهمسة شوق ويا جنا وكل البنات أمونة يا خرطوم.
الخرطوم حينها كانت مثل (البطيخة) الباردة التي يقدموها لك بعد الغداء، كانت الخرطوم لطيفة وراقية وهادية.
حاجة فيك ـ كسرتنا وخلتنا نقعد تحت الأعمدة ونساهر الليل ونتحدى بالصبر الألم.
حاجة فيك تقطع نفس خيل القصائد ـ قطع نفسنا هاشم صديق بهذه العبارة ـ لا أتخيل في السباق الشعري منذ زمن لبيد إلى زمن الدكتور معز عمر بخيت هنالك عبارة سبقت هذا القول، فهو قد جعل نفس خيل القصائد يقطع وهي خيل (اعتبارية) ومعنوية، كيف يحدث ذلك، إذا كانت الخيل الحقيقية نفسها لا ينقطع إذا كانت أصيلة، فكيف إن كانت تلك الخيل (خيالية) أو مجازية، فعلها هاشم صديق في (حاجة فيك). في الحقيقة هاشم صديق هو الفارس الذي جعل الخيل ينقطع نفسه. لو كان جرير بيننا لقتلته الغِيرة على هذا المقطع الشعري؟ وأنا أقول كيف فات على البحتري ذلك، كان هاشم صديق بهذا المقطع، بحتري الشعر العربي وفرزدقه وجريره.. كان متنبيه ونابغته وروميه وتمامه ونواسه وربيعه.
أضحكي ـ هذا الأمر كان كفيلاً أن يبدد كل أحزاننا ويزيل كل رهقنا وينهي همّنا وشقانا، كيف لا وهو جعل الكهرباء تصحو في الشوارع وتعود إلى أسلاك ماتت لغياب التيار الرسمي عندها.
أضحكي ـ كنا بنصرف بضحكتها التموين من السُّكّر والدقيق والزيت.. كنا بنشيل بيها الصرفة ونصرف بيها الماهية، والروشتة والدواء، ونخش بيها الامتحان ونكسب بيها الرهان.
أضحكي ـ كان ذلك كل أملنا وطموحنا ونحن نتسلّل في الحفلات ونحوم في الشوارع، على أبواب المدارس، طمعاً في أن نلتقط هذه (الضحكة)، يكفينا منها (ابتسامة) نتخيلها خيالاً، ونتم بيها باقي اليوم، ونشيل بيها الصبر.
أضحكي../ يغسل النغم المآسي/ تهدأ أمواج القواسي/ تلمس الناس المحنة/ ويرجع الحب لي زمنّا/ وتحضن السفن المراسي/ أضحكي/ تصحا الكهارب في الشوارع/ ينكسر سور الموانع/ تبدأ أعراس المزارع/ والمصانع/ وتوصل الناس الروائع/ يا روائع).
هذا هاشم صديق خرج من عندنا هكذا، دون تجمّل أو تملق أو رياء (اسمي هاشم/ أمي آمنة/ أبويا ميت وكان خضرجي).
هاشم صديق جعلنا نحسد (الزبالة) التي كانت حلماً والحصول عليها يستوجب كل ذلك (الشقاء).. (بيتنا من طين واقع مشرّم/ ولما حال الطين يحنِّن/ نشقى شان يلقى الزبالة).
هذا وسام شرف وصك أمانة ونزاهة جعل حتى (الطين) حالته تحنِّن والبيت المشرم يكاد أن يتوسّل من أجل (الزبالة) التي يشقى من أجلها والد هاشم صديق، هؤلاء العظماء عاشوا بيننا بهذه النزاهة والأمانة، لم يغتنوا القصور، ولم يركبوا العربات الفارهة، لم أشاهد في حياتي هاشم صديق يركب عربية خاصّة، كان يركب المواصلات ويستأجر التاكسي، كان يصحبنا معه في ذلك الزحام (معاي في البص على أم درمان).
مع ذلك كان يبدو كامل الأناقة، كأنه رسول من العصر العباسي.
مرة قلت له وأنا أتلمّس فيه هيبة وكبرياء عُرف به، يا أستاذ الناس واضعنك في برج عاجي وبتخوَّفوا منك وانت تركب المواصلات وتمشي (كداري).. فقال لي: والله أنا وقت يوقفني زول في الشارع في وقت الهجير وأنا أشكو من المرض والقلب بحتسي، أقول ليه نمشي نقعد في الضل ونحن على مقربة منه، وبكمل كلامي معه وونستي تحت الشمس وأنا أتصبّب عرقاً. هكذا كان يتحاشى هاشم صديق أن يحرج أحداً، حتى لو كان ذلك الشخص الذي يتحاشى إحراجه لا يعرفه ولم يلتق به من قبل.
دهشتنا بهاشم صديق ومحجوب شريف وحمّيد والقدال، لم تكن فقط لإبداعهم الذي لا يضاهى، دهشتنا بهم كانت بسبب إنسانيتهم العالية وروحهم الشفافة ووطنيتهم العظيمة.
محجوب شريف رفض عرضاً أوروبياً يمنحه اللجواء والجواز والبيت.. عرضاً يوفر له كل شئ، وفضّل أن يبقى في السودان ليتنقّل بين سجونه في الفاشر وبورتسودان وطوكر وأم درمان.
كانت سجون السودان أحب لمحجوب شريف من قصور أوروبا، من جاهها ونعيمها.
محمد الحسن سالم حمّيد.. دعكم من شاعريته.. حمّيد كان إنساناً يدعو للخير والحرية والجمال.
دخلت مرة بيت حمّيد في نوري بعد حصاد التمر، وجدته يختار أجود أنواع البلح ليُوزِّعه للأهل والأصدقاء، يفعل ذلك في كل موسم ويكتفي بأردأ أنواع البلح لنفسه وأسرته.. كان حمّيد يعشق البلح ويقف في رعايته وحصاده بنفسه ليُوزِّعه للناس في كل موسم ليطبق بذلك قول الله عز وجل (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
لو كان حمّيد (فرنسياً) كانوا صنعوا من كلماته (عطراً).
القدال كان مهموماً بحقوق الآخرين.. هاشم صديق ظل يقاتل من أجل الوطن والحرية.
كانوا يقاتلون من أجل حقوق الآخرين، لم يكونوا يقاتلون من أجل حقوقهم الشخصية.
يمكن أن يظهروا مبدعين جددا، لكل جيل مبدعيه، لكن مبدعون بهذه الإنسانية وذلك الخُلُق لن يأتوا.
في المدارس والجامعات والمعاهد، يمكن أن تتعلم اللغة والعلوم.. في الكتب تجد الثقافة والأدب، لكن محجوب شريف وحمّيد وهاشم صديق والقدال ومحمد المكي إبراهيم هم من كانوا يعلمون الناس الوطنية ونكران الذات.. هم الذين كانوا يطالبون بحقوق الشعب في الحرية والديمقراطية والسلام.
هذه القيم النبيلة والمبادئ السامية لا تتعلّمها في المدارس:
أذن الآذان/ وحنصليك يا صبح الخلاص/ حاضر/ ونفتح دفتر الأحزان/ من الأول وللآخر/ ونتساءل: منو الربحان؟/ منو الخاسر؟/ منو الكاتل.. منو المكتول؟/ منو القدّام ضمير الدنيا/ يوم الواقعة كان موصوم/ وكان مسؤول؟).
نعم هذا هو هاشم صديق:
منو العسكر مع الطغيان/ منو السّلّم صغارو الغول/ منو اللمّع نعل كاتلنا/ يوم
كاتلنا كان مخبول.
للأسف الشديد.. لم يكتفوا بالهتاف، وإنما بلغوا مرحلة أن يلمعوا نعل كاتلنا.
إنّهم يفعلون ذلك.. إنّهم يسلمون صغارهم للغول.
قبل زمن الفضائيات والإنترنت.. كانت البيوت السودانية كلها بدون فرز تجلس أمام الراديو لتتابع مسلسلاً لهاشم صديق.. كان ذلك الأمر قمة المتعة. تابع الناس بشغف (العيون والرماد)، وتابعوا له (قطار الهم)، وعلى المسرح شاهدوا له (نبتة حبيبتي)، وقدم له التلفزيون (طائر الشفق الغريب).
هاشم صديق كان يتحدث سبع لغات إبداعية في الشعر والدراما والمسرح والتلفزيون والصحافة والنقد والمعهد.
عندما قدم برنامجه (دراما 90) ألجمنا الذهول.. يحدثك في الأدب والثقافة اليونانية والإنجليزية كما يفعل شكسبير.
أقراص العافية كنا نتناولها من كتاباته، وثقافتنا كنا نخرجها من برامجها.
في ظل هذه الفواجع الكبيرة أصبحنا نتحاشى الكتابة عن الوجع.. قصدنا أن نتجاوز الأحزان حتى لا نكون مصدراً للطاقة السلبية.
ملزمون مع كل هذه الأحزان أن نكتب عن الأمل.. فنحن لا نملك سواه.. فقدنا كل شئ، ولم يبق لنا غير الأمل، فلا تفقدوا آمالكم.
اللهم أرحم هاشم صديق.
وأرحم برانكو مشجع الهلال الشهيد.
وأرحم الصحافي الهلالي الحبيب أحمد كنوز.
وامنح أهالي الجزيرة والهلالية وأبناء السودان كافة الجلد والصبر.
إلى أهالي الهلالية.. نحن لا نملك لكم إلا الدعاء، عسى ولعل يكون دعاؤنا لكم مجاباً فيخركم من هذه الأزمة وأنتم أكثر قوةً وثباتاً.
أهلنا في تمبول.. كان الله في عونكم.
اللهم أبدل عسرهم هذا يسراً، وأحفظ السودان وأعد له أمنه وسلامه وأهله.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.