هذا السودان المتناقض (١)
تجربة 14 عشر شهراً قضيتها مناصفة في مناطق الجيش والدعم السريع
أبوعاقله أماسا
* خمسة عشر شهراً قدر الله أن أقضيها مناصفة بين مناطق تواجد الجيش وانتشار الدعم السريع، منها سبعة أشهر من بدايات الحرب كنت فيها بمنزلي في إسكان الصحفيين، قبل أن تجبرنا الدانات العشوائية ونداءات شقيقاتي وأشقائي ومعارفي على النزوح.. أو بالأحرى العودة إلى مدينة أبوعشر، حيث مولدي ومرتع وجنة صباي، وأحبابي وأصدقائي وجيراني وزملاء الدراسة ورفاق الطفولة الغضة، وهناك لم نمكث أكثر من شهر وبضعة أيام لتقع النكسة بإجتياح الدعم السريع للجزيرة، ولم يكن النزوح لأي مكان موضوعاً ضمن الخيارات نسبة لوجود كل أهلي في المنطقة، بالإضافة لعدم الإستعداد مادياً ونفسياً لأي نزوح آخر رغم المحاولات، فالخروج من أم درمان كان شاقاً ومكلفاً مع كم من الرهق النفسي والبدني.. فقررت البقاء ومراقبة الأحداث عن كثب، مع بعض المستجدات التي أرى أنها من لطف الله علي وعلى أسرتي ..!
* تسعة أشهر كاملة قضيتها بمنزلنا بالجزيرة، أتابع فيها الأحداث عن قرب من بيتنا المطل مباشرة على طريق الخرطوم مدني،وكنا قد سكنا فيه عام ١٩٧٩ وكنت وقتها في السادسة، ومن ذلك الموقع أكرر النقولة: من رأى ليس كمن سمع، دونت القليل من المشاهدات عبر هذه الصفحة وبعض المواقع الإلكترونية التي أتعاون معها، ولكن ما بقي عندي من المخزون أكبر من مجلدات كبيرة.. سيحين وقتها عما قريب بإذن الله لأكتبها لله وللتأريخ..!
* في هذه الفترة خرجت فيها ثلاث مرات من ولاية الجزيرة، والسفر في زمن الحروب أقسى وأمر، ومررت فيها بمدن الفاو والقضارف وكسلا وبورتسودان وشندي، وتعرفت من خلال هذه السفريات على طرق ومناطق وقرى لم أسمع بها من قبل ولم أخف إستمتاعي بذلك، في قرى البطانة ومشروع الفاو، وعشت تناقضاً في المشاعر بين حوادث قطاع الطرق المنتشرين في طرق البطانة وسمعتهم السيئة، وشهامات وكرم خصال الرجال هناك.. أمثال (بشير) وهو صاحب (ديوان) ضخم يقع في الطريق الخلوي شرق قرية المحس الرقيبة شرق الكاملين، وعنده وجدت أسطورة جديدة من الكرم الحاتمي، حيث كان ومايزال يستقبل المسافرين عبر هذه الطرق، ليأوي الأسر ويكرم وفادتها بصواني من الطعام لا تتوقف على مدار اليوم.. ويرشد الضهبان..وهو رجل فتح الله عليه بفضل لا يخص به إلا الخيار.
* ودخلت كذلك إلى منطقة ود أبوصالح، حيث مسيد الشيخ (محمد المبارك) بارك الله فيه، وإستراحة الضيوف.. وقد كان من حسن حظي أن قضت أسرتي الصغيرة ليلة في ضيافة أسرته هناك في بقعة من الضوء وزخات من الكرم كالمطر..!
* ولأنه هو السفر بمعاناته ووعثاءه، كانت لي مواقف مع رجال الإستخبارات في معابر القضارف وشندي، وقد كتبت بعضاً منها على هذه الصفحة، وانتقدت حساسية هؤلاء مع الإعلام، وأننا كصحفيين مضطرون لإخفاء هوياتنا في مناطق سيطرة الدعم السريع لأنهم لا يفهمون معنى كلمة (إعلامي) والفرق بينها وضابط الجيش، ونسارع في المقابل لإبرازها في مناطق الجيش ظناً منا وربما فرحة بأننا أصبحنا في أمان.. ولكن..!!
* وللحادثة الأخيرة التي تعرضت لها في شندي تفاصيل كثيرة ومثيرة، لأن مدخلها كان مختلفاً عن نهاياتها وبقية تفاصيلها المدهشة، وكانت تجربة فوائدها لا تحصى ولا تعد برغم أن عنوانها هو (إستخبارات الفرقة الثالثة تعتقل الصحفي أبوعاقله أماسا)، وقد جلب لي هذا العنوان الكثير من الشماتة من الذين كنت أجادلهم من قبل على أساس أنني لم أكن محايداً في يوم من الأيام.. ولكن زاوية الرؤية عندي مختلفة تماماً… فأي موقف في هذه الحياة يعطي درساً من الدروس المهمة وقد تعلمت الكثير في ذلك..!
* خلفية دراستي للعلوم السياسية والدراسات الإستراتيجية منحتني زاوية قراءة للأحداث تختلف عن كثيرين، وتجعلني أحياناً أسبق الناس على توقعات تكون في وقتها محبطة، ولا تلبث أن تكون واقعاً يعيشه الناس فيصدقونه.
* المهم سأبدأ كتابة بعض النماذج من تجربة العام وثلاثة أشهر من الحرب في منطقتي سيطرة الجيش والدعم السريع..!!