تعانق عقربا الساعة ثم افترقا ، فسكن الليل و استعمرالهدوء المكان ، ولف فناء المستشفى الكبير بوسط البلد .. هدوء قاتل .. إلا من أصوات هنا و هناك ،تبعثها خطى الماشين فوق الدرج في البنايات العالية ، وعلى ردهات العنابر ، ونوافذها حيث ترسل أنين المرضى ,أو تبعث صرخة لفقد عزيز سرعان ما تتحوّل من نحيب حريمي خافت إلى عويل صاخب ، أو على نسق الحركات الأربع فى موسيقى السيمفونيات وسولاهات الكونشيرتو حيث تتصاعد الأصوات من الوئيد إلى البطىء الى السريع حتى تبلغ قمة الذروة … !
هى بكائيات لو سمعها طيب الذكر ( بوب مارلي ) صاحب الصوت المبحوح والشعر (المكوفت) على الطريقة السودانية ، لانتحب أيضاً ، و ربما ملأت دموعه حوض البحر الكاريبى حيث سواحل موطنه جامايكا , كون رائعته الفذة – No woman no cry- لم تجد فتيلا ها هنا ،فما منعت (بكيات النسوان ) في بلاد السودان و (ما جابت حقها ) و قد راحت (ساكت .. شمار فى مرقة ) ..!!
(أسبوع تمام..) كما نطق المغني وقد صار المشفى كما بيته تماماً ، إنه هنا يمارض والدته وبرفقته شقيقته الصغرى وبقدر امتعاضه وكرهه لأجواء المستشفيات إلا أنّ للضرورة أحكام حيث لابد من بقائه بجوار أمه طوال اليوم خوفاً عليها من وطأة المرض وخوفاً آخر من رحيلها الذى لا يتمناه وهي التي كانت أمنيتها أن تراه عريساً لـبنت عمه ( انعام ) قبل سنوات .. كان أكثر ما يخيفه بالمشفى عويل النساء الذي يعلن عن رحيل عزيز ..!
تلك الليلة بل قل ( في الليلة ديك) تناهت إلى مسامعه ( ولولة) الشابة الجنوبية (تريزا )، فى العنبر المجاور وهى تودّع زوجها (جوزيف) المسجى أمامها حيث فارق الحياة وقد شيعته بعبارات دامعة ومفردات آسية ، فلم يدر في خلده وقتها أيشاطرها الأحزان لفراق بعلها العزيز أم يضحك .. فإنّ شر البلية حقا ما يضحك .. !!
احتشدت عبارات (تريزا) الحزينة بكل معانى التراجيكوميدى ( وووووه جوزيف ووووووي.. أنا نمسي وين تاني و إنت موتوا كلاس .. جوزيف منو تاني بجيب لبن لي ولد بتاع إنتي .. منو تاني بجيب هدوم لي أنا .. منو تاني بحب إنت أنا ؟؟؟ !
كان يبكي في صمت .. وهو يسمعها ترثي زوجها بعبارات تمزق نياط القلب … إلا أنّ محياه (رسمت) ابتسامة عجلى وضحكة خجلى .. خرجت على مضض و(تريزا) تطلق العنان في رثاء بعلها الراحل : ووووه جوزيف وووووي إنت موتوا كلاس .. منو تاني بنوم مع أنا .. ؟!!
لقد كادت (تريزا) أن تحاكي جراءة (بت الريس) فى رائعة الراحل الطيب صالح الموسومة (موسم الهجرة إلى الشمال ) وهي تحكى عن فحولة زوجها في مجالس الرجال دونما حياء و السيجارة تتدلى من – هل أقول شفتيها ؟ – بينما دخانها يلف المكان ، أعني (بنت الريس) ..!
ومن العنبر الأسفل سمع صرخة ( زينة) تلك العروس اليانعة التى لم يتجاوز عمرها (الطاشرات) .. يا الله .. يبدو جلياً أنّ زوجها الشاب قد ودع أيضاً .. !!…. ما أقسى تصاريف القدر ، وبعض أحكامه القاسية تأخذ بتلابيبنا فتخنق الأحلام بغتة وتؤدها ، لقد مات زوجها حسن و أيامهما في شهر العسل لم تتعد الأسبوع …!
وسرعان ما تذكر شريط تلك الليلة التي شاهد فيها زينة أول مرة حين جاءت والهلع يأخذ منها مأخذاً عظيماً ،حيث تقدمت جوقة من الرجال و النساء يحملون زوجها (عمر) على النقالة إلى داخل العنبر وعيناها الواسعتان تبرقان جزعاً ….!!
كانت زينة أمامهم تجرى و قد انحسر ثوبها عن نهدين متوثبين .. يعلوان ويهبطان كأنهما حمامتان عائدتان إلى عشهما في ليلة مطيرة ..!
وسريعاً ما لام نفسه كيف يطلق العنان لأفكاره هذه والمقام مقام موت .. ألم تسمع يا يوسف أنّ ( وكفى بالموت واعظاً ).. استغفر الله العظيم يا راجل وقم من مكانك إلى حديقة المستشفى حيث مكان مبيتك والصباح رباح …!
لم تمض بضع ساعات على نومه حتى تخيل يوسف أنه يحلم والممرضة فارهة الطول تنحني على رأسه التي وسدها نعليه وقد ربتت على كتفه الأيمن وهي تردد يا يوسف .. يا يوسف ..!
فانتفض واقفاً وجفونه مثقلة بالنعاس و أذناه ما برحتا تضجان ببقايا من نحيب الأرامل وأنين المرضى .. كيف عرفت الممرضة مكان نومه في حديقة المستشفى لا بد أنها عرفت من شقيقته مريم ..!
منذ أن رقدت والدته الحاجة مدينة المشفى قبيل أسبوع ويزيد كان يتخذ من نجيلة الحديقة قبالة عنبر والدته بالطابق الثاني مقراً لمبيته .. كان فى باديء الأمر لا يبتعد كثيراً عنها ، لكنه بات لا يحتمل سيناريوهات البكاء والنحيب على النحو الذي سمعه بالليلة السابقة من الأرملتين (تريزا) والعروس زينة ، فأثر أنْ يترك شقيقته الصغرى بجوار والدته المريضة …!
حين صحا يوسف من نومه قالت له الممرضة : دايرنك فوق .. وقتها أحس بأنَّ خطباً جلل قد حدث ، لابد أنَّ والدته قد فارقت الحياة ….!!
صعد الدرج حيث الطابق الثاني ونظراته ترنو إلى والدته من بعيد .. سبحان الذى بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير .. كانت أمه ترقد على السرير ونصفها الأيسر من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها متيبس تماماً .. لعنة الله على (الهيبرتنشن ) ومضاعفات ضغط الدم أو القاتل الصامت الذي أودى بحياة نصف أفراد أسرته
ومع قتامة الموقف وسواده ضحك فى سره حتى تمتم لنفسه :الله يجازي محنك يا يوسف.. فقد جالت بخاطره الطرفة القديمة التي سمعها من صديقه ذات مرة حيث قال : بينما أحد المرضى على السرير الأبيض تناهت إلى مسامعه تفاصيل ملخص (كونصولتو الأطباء) و قد أجمعوا بقولهم وهم يرطنون فوق رأسه بالإنكليزية التي يستوعبها تماماً أن حالتة وصلت مرحلة الـ Hopeless Case- – وحتماً ستقوده حالته الميئوس منها للإصابة بشلل نصفي أيسر قد يستحيل علاجه، وبسرعه كان المريض يلتقط التحذير الخطير ثم يحول (عضوه ) من النصف الأيسر إلى النصف الأيمن ..!!
شريط سينمائي سريع مر أمام يوسف ، جرت تفاصيله قبيل أسبوع وشقيقته مريم تطرق باب غرفته بقوة ونحيبها يسبق نداءها : يوسف .. قوم أمي وقعت .. أمى وقعت !!
.. و حمل أمه و ركض إلى الطريق توقفت عربة حملته للمستشفى .. أرقدها بيديه الرعشتين في السرير الأبيض .. فحص الطبيب نبضها والتفت.اليهم . لم يستطع يوسف تحمل الموقف.. حتى قال الطبيب انها تعانى من ارتفاع خطير فى ضغط الدم , ثم كانت صحيفة الاتهام توجه للقهوة التى ادمنت امه تعاطيها صباحا وعصرا ومساء ..!
فى العنبر حيث جسد امه المسجى كانت أخته مريم تنتحب فى حرقة بينما تماسك و أخرج هاتفه النقّال ليخبر أهل البيت بخبر الوفاة .. !! ترى هل كانت تلك مفارقة أم هي واحدة من تصاريف القدر , لقد تصادف يوم رحيل والدته مع ذات يوم زواج ( إنعام) …!
لعله هنا سيبكى مرتين ..رحيل أمه .. وضياع حلم (إنعام ) .. فقد كان يحبها حد الجنون وكانت تبادله الشعور ولكنه لم يدر لماذا كان سلبياً فلم يتحرك إلا في الساعة ( الخامسة والعشرين)
لم يصدق عينيه و أذنيه وأنفه معاً التي رأت وسمعت ونشقت (انعام ) بلحمها ودمها، وصوتها الحبيب – إلى نفسه – صارخاً باكياً وعطرها الباذخ وهى تحتضن جسد أمه المسجاة على فراش الموت ثم ترتمي في أحضان يوسف فيشاركها الأحزان والأحضان باكياً بحرقة …
ولم يدر يوسف حتى الآن .. هل بكى فقد أمه أمْ (انعام ) …. !! أم بكى لبكاء (تريزا) و حزنها الذى جسدته بقدر قامتها السامية ..!