صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

واعظُ السلطان برقو و”عدالة التماثل”!

82

العمود الحر
عبدالعزيز المازري

واعظُ السلطان برقو و”عدالة التماثل”!

ليست المساواة عدلًا دائمًا

 

*قرأت ما كتبه الزميل العزيز الأستاذ /أبو بكر عابدين في عموده الأخير، فوجدت فيه حرقةً حقيقية على ما آلت إليه حال الرياضة السودانية، ولست في موقع من يقلل من شأن قلمٍ عُرف بجرأته، ولا من كاتبٍ يحمل غيرة صادقة على المشهد العام. بل إن كثيرًا مما طرحه في عموده عن ممارسات الهيئات الرياضية، من الاتحادات إلى الأندية، يلامس واقعًا مؤسفًا لا يختلف عليه اثنان: واقعٌ تراجعت فيه القيم، وتقدمت فيه المصالح، وتاهت فيه الأولويات.
*ولكن، وعلى أهمية النقد العام للمشهد، فإن التعميم يظلّ خصمًا من دقة الطرح. فالمساواة المطلقة التي سادت عموده بين “قادة الاتحاد ومنافسيهم” تبدو في ظاهرها إنصافًا، لكنها تخفي ظلمًا ضمنيًا لمن لم يُتح له بعد أن يجرّب أو يُقيَّم بميزان الممارسة. فشتّان بين من جلس على مقعد القرار سنواتٍ طويلة، وشهدت فترته إخفاقات واضحة، وبين من يطالب بحقه في دخول المنافسة بطرح مختلف ورؤية جديدة.
*ولعل من المهم في هذا السياق التوقف عند حق مجموعة حسن برقو في اللجوء إلى لجنة الحوكمة بالفيفا. فهذا الإجراء، بقدر ما أثار تساؤلات وتسريبات هنا وهناك، لا يخرج عن كونه حقًا قانونيًا أصيلًا كفله النظام الدولي، ولا يجب أن يُفهم أو يُصوّر وكأنه “تشويش” أو “مشاكسة” كما ورد في العمود. بل العكس تمامًا: اللجوء إلى الهيئات المشرفة على نزاهة الإجراءات الانتخابية هو سلوك ناضج، لا يصدر إلا من مجموعة ترى خللًا بنيويًا في بنية الجمعية أو في النظام الأساسي، وتختار الطريق القانوني لمعالجته، بدلاً من الصمت أو التآلف مع العبث.
ثم إن تصوير هذا الحق القانوني وكأنه تعبير عن “طمع في العودة” فيه تبسيط وتقليل من طبيعة الصراع نفسه، لأنه ليس صراعًا شخصيًا على المقاعد، بل تنافس حول مشروعية الهيكل، ومشروعية الوصول إليه. المعركة الحقيقية ليست بين أفراد، بل بين تصورات مختلفة لطريقة إدارة الشأن الرياضي، ومن الظلم أن تُخنق إحدى هذه التصورات قبل أن تدخل إلى الميدان.
*الأستاذ عابدين تساءل بمرارة: ما الذي يجعل البعض يدفعون الأموال ويسعون بكل طاقتهم للجلوس في مقاعد الاتحاد؟ وهو سؤال في محله، لكن الإجابة لا يمكن أن تُبنى على الشك وحده، ولا يصح أن تُقدَّم وكأن كل ساعٍ إلى موقع رياضي يفعل ذلك لمصلحة شخصية. وإلا فسنقع في فخّ آخر: أن نغلق الباب أمام التغيير بدعوى أن الجميع سواء.
*إن الرياضة السودانية ـ نعم ـ تحتاج إلى غربلة شاملة، لكن هذه الغربلة لا تبدأ بالتسوية بين المختلفين في التجربة والسلوك، بل تبدأ بإتاحة الفرص، وفتح باب المنافسة الحقيقية، والاحتكام إلى المعايير المهنية والبرامج الواضحة، لا إلى الانطباعات العامة.
*لسنا ضد النقد، بل نراه ضرورة، ولكننا مع التمييز بين من كانت له فرصة وفشل، ومن يُطالب بفرصة ولا يُمنحها. ومع الإنصاف في التوصيف، لأننا إن لم نُحسن قراءة الواقع بعدسته الصحيحة، سنُعيد إنتاج ذات الخلل، حتى لو غيّرنا الأشخاص.
*أحترم ما كتبه الزميل، وأتفهم منطلقاته، وأتفق معه في تشخيص الفساد العام، لكن الخلاف في التقييم لا يفسد للهدف المشترك قضية. فغايتنا جميعًا أن نرى كرة القدم السودانية تنهض من كبوتها، وأن يُعاد الاعتبار للمؤسسات، وأن تكون القيادة لمن يستحقها بالكفاءة، لا بالموالاة أو التاريخ.
المشهد الرياضي بحاجة إلى نقّاد، نعم، لكنه بحاجة أيضًا إلى موازين دقيقة، تفرّق بين من يحاول، ومن يُعيق، وبين من يُحاسب على تجربة، ومن يُمنع من البداية.
*ليس من الموضوعية في شيء أن نسوي بين أطراف متباينة في التجربة والمسؤولية، ثم نطلق عليهم حكمًا عامًا يشبه “الكل سواء”! هذا النوع من التسويات الباردة – كما ورد في مقال الأستاذ أبو بكر عابدين – يخدع القارئ بعدالته الظاهرة، بينما يُخفي ظلمًا ضمنيًا يتغاضى عن الفروق الجوهرية بين من تربع على الكرسي وأدار اللعبة لسنوات، وبين من لا يزال يُمنع حتى من الدخول للحلبة.
*إن قادة الاتحاد العام الحاليين، بقيادة الدكتور معتصم جعفر، ليسوا في بداية تجربتهم ولا في منتصف الطريق. لقد مضوا في القيادة سنوات طوال، وتحكموا في مفاصل اللعبة عبر جمعية عمومية تم تفصيلها بحرفيةٍ تُحسد عليها، ومرروا عبرها نظامًا أساسيًا يُغلق الباب أمام المنافسة الحقيقية، ثم مضوا إلى انتخابات بلا صوت معارض، وكأنها استفتاء على “إجماع وطني”… فهل يُساوى بهم من لم يُتح له مجرد حق الترشح العادل؟!
*أما مجموعة السلطان حسن برقو، فلا نراها في موقع “المتهم المريب” كما صوّرها المقال، بل في موقع المطالب بالحق – حتى لو اختلفنا معها في الوسائل أو التصورات. هذا تيار سُدّت أمامه الأبواب، فلجأ إلى الفيفا من بوابة لجنة الحوكمة، ورفع طعنًا قانونيًا في تكوين الجمعية العمومية، ولم يبعث بشكواه من منابر السياسة ولا بأساليب الفوضى، بل عبر المؤسسات. أليس هذا من أبجديات التنافس الشريف؟!
ثم إن وصف من دعموا حقه في الترشح بأنهم “أقلام رخيصة”، فيه تجاوز كبير من كاتب نُجلّه ونحترم قلمه. لأن حرية التعبير لا تنقسم بين قلم شريف وآخر رخيص بمجرد اختلاف الزاوية. ليس من العدالة أن نجعل الرأي الآخر شبهة، وأن نُجرّم كل صوت لا يُردّد أصداء المجموعة الحاكمة للاتحاد.
*نعم، نُقر مع الكاتب بأن الساحة ملوّثة، وأن المال السياسي أصبح لعنةً على الرياضة، لكن من غير الإنصاف أن نقذف الجميع باتهامات “شراء الأصوات” دون تمييز أو دليل. إن وُجد فساد – وهو موجود قطعًا – فلن يُداوى عبر تعميم الإدانة، بل عبر تفكيك المشهد بحيادية وتقديم البدائل، لا عبر الرجم الجماعي.
*وبرقو، حتى إن لم تتوفر له منابر الإعلام المسيطر عليها، يبقى رجلًا جاء من الهامش، لا من إرث اتحادات التسويات. جاء بمشروع – قد نختلف حوله – لكنه يبقى مشروعًا مطروحًا للنقاش، لا يمكن تجاهله فقط لأن فوهة المايكروفون محجوزة لغيره.
*ما كتبه الأستاذ أبو بكر عابدين في بعض جوانبه يُحسب له من حيث الجرأة، لكن وضع مجموعة تملك كل أدوات السلطة في كفّة مساوية لمجموعة تبحث عن موطئ قدم، فيه انحراف . فليس كل “الطامحين” متشابهين، وليس كل من دخل الاتحاد مذنبًا، وليس كل من أُقصي “بريئًا”، لكن المحاسبة يجب أن تُبنى على ما فُعل، لا على من أين جاء الشخص أو من وقف معه.
*نحن لا نقدّس الأشخاص، ولا ندافع عن برقو بوصفه المخلّص، لكننا نرفض أن يُقصى تيار كامل دون مناظرة، ويُمنع من المنافسة لأن من يملك مفاتيح اللعبة لا يحبّ تغيير الأسماء. إن النقاش الحقيقي يبدأ عندما نفتح الساحة للجميع، ونسمع للكل، ثم نُحاسبهم بناءً على الأداء، لا الانتماء.
لكن ما نراه ضروريًا هو أن نعيد تفكيك بعض الأحكام التي وردت في المقال، ونُمعن النظر في مبدأ “التسوية” بين جميع الأطراف، والتي حملها وكأنها حكم مُطلق لا فرق فيه بين فاعل ومُبعَد، ولا بين من امتلك أدوات السلطة ومن حُرم حتى من منصة المنافسة.
كلمة حرة أخيرة:
العدالة لا تعني أن نسوي بين الجميع، بل أن نضع كل واحدٍ في موضعه، ونعطي كل فكرة حقها من الاختبار. والاتحاد الذي يخشى المنافسة، هو اتحاد لا يثق في نفسه ولا في مشروعيته. وواعظ السلطان، مهما تلطف في العبارة، سيظلُّ في نظر التاريخ مجرّد شاهد.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد