* نعم، سبعة أعوام عجاف والبلد تفتقده والساحة السياسية تبحث عنه، بينما لا يزال جرح رحيله أخضر .. !
* فراغ عريض تركه رحيل سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني الأستاذ المناضل حقاً محمد إبراهيم نقد صاحب المسيرة الوطنية الحافلة والسيرة السياسية المثيرة للجدل، فقد إنسل عن دنيانا في الثاني والعشرين من مارس قبل سبعة سنوات في عام رحيل العمالقة تاركاً في الحلق غصة، وفي القلب حسرة، وعلى الخدود دمع هطال، وفي العقل أكثر من سؤال ..!!
* كنا ونحن طلاباً بمدرسة رفاعة الأميرية المتوسطة نسمع عنه حكاوي أقرب للخيال ونراه أسطورة درامية أكثر من كونه شخصية سياسية .. نرهف السمع لبعض الشباب المنتسبين للحزب الشيوعي وهم يتحدثون عن قدرات (الأستاذ) الفائقة في الغياب عن عيون المراقبة وبراعته في الإختباء، ومهاراته الفذة في تضليل الأجهزة الأمنية عبر سيناريوهات علّمت الساسة قواعد الإختفاء ..!!
* كثيرة هي القصص التي سمعناها إبان تلك المرحلة عن قدرات نقد في الإختفاء ثم الظهور فالإختباء ، ولا زلت أذكر قصة رواها لنا أحد أبناء رفاعة من طلاب كلية الهندسة جامعة الخرطوم – ممن كان يشار إليهم ببنان الثقافة والإطلاع وسعة الأفق – ونحن نتحلق حوله تحت (نور عمود) كهرباء بحي الجنينة ، وطالب الهندسة النابه يمزج لنا وقائع القصة الغريبة بسرد مشوق ولغة سلسة ودراما عالية جعلتنا نحبس أنفاسنا ، والفتي يدهشنا حد الذهول برواية حدثت عام 1973 حيث طلبت لجنة الإحتفال باليوبيل الفضي لمدرسة حنتوب الثانوية بمدني من جميع خريجيها بمختلف مناصبهم ومقاماتهم ودرجاتهم العلمية الحضور للمدرسة والمشاركة في الإحتفال التاريخي لواحدة من أهم منارات العلم بالبلاد ، وكان نقد والرئيس جعفر محمد نميري من أبناء الدفعة الثانية بحنتوب ، وقد حرص نميري علي الحضور رغم مشاغله كرئيس للجمهورية، في الوقت الذي لم يكن فيه بمقدور نقد الحضور لأنه كان يعيش إحدي فترات إختفائه ويمارس عمله السري (تحت الأرض)، وعندما دخل نميري لداخلية (ابوعنجة) بحنتوب التي كان يسكن فيها إبان فترة الدراسة طلب منه أحد زملائه من أبناء الدفعة الثانية اعطاء نقد (الأمان) لساعات حتي يخرج من مخبئه ويحتفل مع الدفعة ثم يعود الي باطن الأرض من جديد دون ان تمتد له يد الإعتقال ، و ماكان من نميري سوي إبداء الموافقة الفورية ليخرج الشيوعي المخضرم بالفعل ويحضر الإحتفال ويشارك فيه بفاعلية مع أنه كان أحد أشرس معارضي نميري آنذاك ، وعندما جاءت فقرة أداء مباراة في كرة القدم تم إسناد مهمة (مساعد الحكم الأول) لنقد في الوقت الذي كان فيه نميري يصول ويجول مع اللاعبين داخل الميدان ، وفي أحدي الهجمات إستلم نميري الكرة بصدره وقبل أن يطلق قذيفته – رفع نقد راية التسلل- إلا أن الحكم لم ينتبه لرأيته تلك ، فسدد نميري الكرة في المرمي محرزاً هدفاً جميلاً إرتجت له جنبات الملعب بيد أن (المساعد الأول نقد) ظل رافعاً رأيته حتي أتي اليه حكم الوسط وسأله في دهشة :- (في شنو يا نُقد) .. ؟؟ .. ليرد بسرعة :- (يا حكم الراجل دا سارق) ..!!
* بالطبع ، لم يأخذ الحكم بالراية وتجاوز حديث (رجل الخط) وأحتسب الهدف ، ليلتفت نقد نحو الجمهور وهو يسألهم بمكر سياسي وخفة ظل ودهاء بالغ قائلاً :- (بالله مش كلكم عارفين الزول دا سارق) ..!؟
* دخل نقد موسوعة جينيس للأرقام القياسية في ممارسة العمل تحت الأرض والإختفاء عن المشهد السياسي في (لحظات التضييق) حيث عاش (26) عاماً مختفياً عن الأنظار في ثلاث فترات من عمره البالغ 82 عاماً، ولعل أطول فترة إختفاء لنقد كانت إبان حكم نميري حيث إختفي 14 عاماً كاملة، وسبقها بـ (5 أعوام) خلال فترة حكم عبود ، وكانت آخر فترات إختفائه في عهد الإنقاذ التي إستمرت (11 ) عاماً منذ 18 فبراير 1994 وحتي مطلع أبريل من عام 2005 عندما زاره الفريق أول صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني ونائبه آنذاك الفريق محمد عطا داخل المنزل الذي يقيم فيه سرياً وقالا له :- (من حقك أن تخرج وتمارس عملك السياسي في العلن دون مضايقة ، فأنت لست من الأسماء المحظورة عن العمل السياسي ولست من المطلوبين لدي الأجهزة الأمنية) ، وكانت هناك مناشدة قبل تلك الزيارة بفترة ليست بالطويلة من علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية وقتها طالب فيها نقد بالخروج وحكي من داخل المجلس الوطني في إحدي احتفالاته قصصاً عن العلاقة الحميمة التي جمعته بالسكرتير العام للحزب الشيوعي تحت قبة البرلمان ..!!
* هاهي الذكرى السابعة تمر على رحيل نقد، ومياه كثيرة جرت من تحت الجسر، وتغيرت الأوضاع إلي حد كبير وتبدل حال المشهد السياسي تماماً منذ زمن (حضرت ولم أجدكم).!
* كان الحزب الشيوعي (مختفي) تماماً في السنوات الماضية وكأنه يتحرك تحت الأرض، حيث لم يكن لديه نشاط ملحوظ بقامة تاريخه وقيمة وزنه ورحلة نضاله الطويلة، ولكنه أضحى نجم المشهد السياسي الأول في شهور الثورة الماضية حيث كل فعل يحدث بالشارع منذ إنطلاقة الإحتجاحات الأخيرة ينسب للحزب الشيوعي الذي بدوره لم يتبنى كل الحراك وذاك أمر طبيعي و(لم يُبرِّد بطن الحكومة) بنفي ما ظلت تردده من اتهامات متلاحقة ولسان حاله يقول (لو قالوا ليك سمين قول آمين)، فكل جسم نقابي يقول كلمته أو كيان يعلن عن نفسه بما في ذلك تجمع المهنيين يتم إعتباره واجهة للحزب الشيوعي خاصة إذا ظهرت بعض الأسماء المعروفة بميولها اليساري في الجسم المنسوب للشيوعيين فأضحى تاريخ الحزب بعبعاً مخيفاً لخصومه في الحاضر، بينما حضوره يفسر بأنه مؤامرة، ونشاطه مخطط، وصمته لعب تحت الطاولة.
* كان الراحل نقد أول من خرج للشارع معلناً (لا الرفض) ومطالباً برحيل النظام في قراءة إستباقية لما يحدث الآن، وعندما تخلف الناس عن الخروج لموكب الرفض في يوم الأربعاء التاسع من مارس 2011م الذي دعت له المعارض بميدان أبو جنزير كان كعادته في قمة الديمقراطية والتحضر والعقلانية فلم ينفعل أو يشتط غضباً أو يسعى لتخوين أحد أو التنمر على من فضلوا الجلوس في بيوتهم من قادة المعارضة وقواعدها، وكتب رسالته البليغة تلك بكامل الحزن وكل الأمل على (قطعة كرتونة) وجدها هناك: (حضرت ولم أجدكم).
* غاب نقد الحاضر دوماً عن المواكب التي تنتظم البلاد الآن بأمر الموت؛ ومن لم يجدهم بالأمس في ميدان أبو جنزير من شباب ثائر أحتضنتهم اليوم الشوارع؛ وروح الراحل ترفرف فوق كل من خرج يدعو لسيادة القانون والتغيير ويطالب النظام بالرحيل.
* نسأله تعالى لنقد الرحمة والغفران ولأهله وذويه وأصدقائه ورفاقه وعارفيي وطنيته ونضاله الصبر والسلوان، والعزاء للسودان.
نفس أخير
* في الثالث والعشرين من مارس 2012 جادت القريحة ببعض أحرف دامعة في حق الراحل ونشرت محاولة الرثاء المتواضعة تلك حينها بصحيفة (فنون)، فقد نزل علينا نبأ رحيل الأستاذ نقد كالصاعقة وإن لم استحضر النص الذي حمل عنوان (حضرنا ولم نجدك) كاملاً فهذا بعض منه:
وأيه معنى الغياب ..؟؟
والدمع عليك صابي ..
وداعاً يا مسامح
يا زولاً ودود .. مابعرف يعابي
في الحق ما بتهادن ..
تغامر بعمرك
وروحك تشابي ..
لا بتهاب مشانق
لا سجوناً حصينة ..
(تمرق) للنصيحة
يا (ملك المخابي)
***
وينو (نقد) الليلة ..
ماكان بيناتكم هسه
(إختفي) من تاني وحاتكم..
ورونا حقيقة القصة
الزول الطيب سيره ..
إن شاء الله يكون (إدسا)
دعواتكم بس يا أمة
أنتهت الليلة الحصة ..
نعاهو الناعي أمبارح..
وعُمر النضال إتقصا
***
حضرت ولم تجدهم ..
و (ميدانك) لسع فاضي
الناس منتظرة رجوعك
مشيت سافرت بغادي ..
الكل مكلوم باكيك
متقبل حامد وراضي..
يا حليلو بلدك
مقطوع راس عديل ..
والناس بي هناك تهادي
يسألوا عن (خليفتك) ..
وفقدك ماهو عادي ..
يعني خلاص مفارق
يا زولاً مسامح ..
ما بعرف يعادي
يعني خلاص وداعاً..
ما (مخبأ جديد)
من بعدو تجينا صادي..
يا (أستاذ) الجية متين
دا سفرك ما إعتيادي..
ناحت بلابل الدوح
ومافي السرب شادي..
وداعاً يا (رفيق)
ما عاد للركب حادي .