*عندما تندلع ثورات الشعوب فإنها لا تستهدف في العادة مجرد تبديل الطبقة الحاكمة للدولة، بل تسعى إلى إحداث تغييرٍ جذريٍ (Drastic change)، في بِنية الدولة والحكم، بشرعيةٍ ثوريةٍ، تستند إلى حراكٍ شعبيٍ جارفٍ، تميزه العفوية، ويعوزه التنظيم الدقيق، ويستهدف إرساء نظامٍ جديدٍ، يقوم على إزالة ما كان، وتغيير بنية إدارة الدولة كلها، خلافاً للانقلابات العسكرية، التي قد يكتفي منظموها بانتزاع السلطة، بعد التخلص من قمة هرمها فحسب.
*حدثتنا كتب التاريخ أن الثورات تندلع لمسبباتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ، تُذكي أوارها، وتقوي عُودها، فالثورة الإنجليزية مثلاً كان مُحرِّكها الأول أفكار سياسية ودينية متطرِّفة، ونهج حُكمٍ مُستبد، دعا به الملك جاك الأول إلى تطبيق الملكية المُطلقة، وفرض به آراءً تتعلق بالحق الإلهي في الحُكم، معتبراً الملك مسؤولاً أمام الخالق وحده، وليس لرعاياه أي حق في محاسبته بالقانون، لأن شخصه يمثل القانون.
*أما الثورة الأمريكية فقد استندت في أصلها إلى سعي السكان الأوائل إلى مناهضة قانونٍ جائرٍ، قضى بنقل كل منتجاتهم إلى إنجلترا، التي كانت تستعمرهم، وتحظر عليهم منافستها في الصناعة، خلافاً للثورة الفرنسية، التي استهدفت القضاء على الفقر، واستبدال الملكية القابضة المترفة، بالجمهورية العادلة، وآلت إلى دكتاتوريةٍ مطلقةٍ، نقل بها نابليون أفكار الثورة ومبادئها إلى عددٍ مقدرٍ من دول أوروبا الغربية والمستعمرات الفرنسية.
*أما ثورات الربيع العربي فقد استهدفت مناهضة مظاهر الفقر والظلم الاجتماعي المرتبطة بالاستبداد السياسي، وإنهاء هيمنة نخب فاسدة سيطرت على السلطة والثروة، وتركت شعوبها ترزح تحت نير الفاقة والقهر والمرض والاستبداد.
*بيت القصيد أن فكرة التغيير الشامل ظلت حاضرةً بقوة في تاريخ كل الثورات، وراسخةً في سلوك كل الشعوب التي انقلبت على حُكِّامها، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، وبالتالي يصبح الاحتجاج على تلك الفكرة في واقعنا الآني غير مسنودٍ بمنطق يبرر رفضها، ومسوغ يذكي استنكار سعي الثائرين إلى تفكيك بنية الدولة الإنقاذية.
*صحيح أن القوى الثورية السودانية اضطرت إلى إبرام تسويةٍ سياسيةٍ مع بعض أركان النظام الذي ثارت عليه، بعد أن عجزت عن إزالتها، لكن ذلك لن يمنعها من السعي إلى تفكيك بقية مكونات النظام المنهار، وإزالة غالب إرث التمكين، بدءاً بالاتحادات المهنية والنقابات العمالية، وواجهات الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية، من باب (ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله).
*يجب على قادة تلك النقابات والتنظيمات أن لا يستغربوا زوال نظامهم، وحل روابطهم، وسعي قوى الثورة إلى استبدالهم بآخرين، يؤمنون بمبادئ الحراك الشعبي الجارف، ويُظاهرون مساره، ويدعمون أفكاره.
*عليه أدعو صديقي وزميلي الصادق الرزيقي ورفاقه في اتحاد الصحافيين السابق أن لا يقفوا في وجه التيار الجديد، وأن يكفوا عن محاولات التمسك بمواقعهم، لأن بقاءهم فيها خلال العهد الجديد غير وارد، مهما قاوموا وتمسكوا وناهضوا.
*الدعوة للوقفات الاحتجاجية لن تغير في الأمر شيئاً، فلكل زمانٍ رجاله، ومن المستحيل بقاء الأمر على ما كان في سابق الأوان، سيما وأن الإنقاذ نفسها حرصت على تفكيك ما ورثته ممن سبقوها، وأعادت بناء تلك المكونات بما يوافق توجهاتها، ويتسق مع نهجها وأسلوب حكمها.
*حتى بفقه المثل الدارفوري الشهير (أم جركم ما بتاكل خريفين) يصبح حل تلك النقابات طبيعياً، ويظل إبعاد قيادات الخدمة المدنية الذين أتت بهم الإنقاذ متوقعاً، لكن المهم حقاً أن لا يتم استبدال التمكين بالهيمنة، وأن تعلو معايير الكفاءة على الانتماء في كل المكونات التي يدفع بها النظام الجديد إلى واجهات الخدمة المدنية، والروابط النقابية، والاتحادات المهنية، كي لا نظل (محلك سر)، ونستبدل تمكين اليمين بتمكين اليسار.