أبوعاقله أماسا
* في سبيل الحديث عن قضية تمييز الشريط النيلي، التي طرحها بعض المثقفين وأشباه المثقفين من أقاليم ومناطق أطلقوا عليها المناطق المهمشة، نواصل اليوم على ذات النسق وندفع بالبراهين التي تؤكد أن قضية تلك المناطق في إنسانها قبل أن تكون في الحكومات المركزية، ففي حديثهم قالوا: أن هذه المناطق قد تعرضت لإستهداف وتهميش تأريخيين من الحكومات ولم تعرها إهتماماً يليق بها، وألمح الكثيرين منهم إلى عنصرية وجهوية الحكومات المركزية.. وأنا هنا ليس لأنفي ما ذهب إليه أولئك الناس، وإنما لطرح القضايا من زاوية أخرى، وحتى لا يخرج إلينا أحدهم بتصنيف وإتهامات من عينة تلك التي تسارع بالتخوين عند الإختلاف، فأنا أنتمي لجبال النوبة، أباً عن جد، وأستمع كثيراً لمن بتحدثون عن قضايا جبال النوبة بمنطق معوج كانت نتائجه المرصودة لدينا أنها قد أعاقت مسيرة التنمية في المنطقة وساهمت أكثر من سياسة (المنطقة المقفولة) التي فرضها الإستعمار الإنجليزي في تخلف جبال النوبة وفي أن يعيش إنسانها اليوم في مستوى أقل مما عاشه أجداده القدماء في ذات الرقعة، وحتى سياسة المستعمر كنت أنظر إليها من زاوية نظر مختلفة عن الآخرين، وهي أن الإنجليز بعد أن عايشوا وعانوا عنف إنسان جبال النوبة وجديته في الجندية والكفاح وشراسته في القتال من خلال ثورتي السلطان عجبنا والمك علي الميراوي كان من الخطر عليه أن يجعل المنطقة تنفتح على بقية قبائل السودان حتى لا يتكرر ما حدث من قبل في الثورة المهدية، عندما إحتضنت جبال تقلي الإمام المهدي ومنحته كل ما من شأنه ان يؤهله لتحرير الأبيض وهزيمة هكس باشا في شيكان.. وبقية الفصل التأريخي المعروف.
* من حيث طبيعة القبائل في ولايات كردفان ودارفور، وثقافتها المحلية، فهي تعاني ما يكفي للعزلة والتهميش، فرغم أن الأرقام تؤكد أن أكثر من ٧٠٪ من حفظة القرآن الكريم من تلك المناطق، فالمؤكد أيضاً أن تأثير الدين الإسلامي على مجتمعات دارفور ضعيف للغاية وأنها لم تتأثر بالثقافة الإسلامية من حيث السلوك والمعاملة، للدرجة التي يسترخص فيها الناس قتل النفس، وفي بعض القبائل يسخرون من الرجل الذي بلغ سن الرشد دون أن يقتل إنساناً، وكثير من أنماط سلوك البشر المنافية لتعاليم ديننا الحنيف، مما جعل قضية دارفور وكردفان أكبر من القصص التي تثار على الأسافير من قبل متحدثين يتناولون جوانب التنمية بمنطق أن الحكومات المركزية مجبرة على أن تحمل الإنسان هناك على أكف الراحة، فهم يتهمون الحكومات المركزية وحتى إذا كانت حكومة الخرطوم تضم الحاج آدم وحسبو وحميدتي وزمرته الكارثية وعبدالله مسار وعلي محمود وأركو مناوي وأبوقردة وغيرهم من الوزراء الذين ينتمون لدارفور وغيرهم ويشاركون في حكومات المركز وفي مناصب مؤثرة في القرار دون أن ينجحوا في بلورة قضية دارفور وإخراجها من إطار القبيلة الخانق إلى حيث يمكننا التشبيه والمقارنة بالشريط النيلي المفترى عليه، ولو من زاوية القبول بالآخر والإستعداد للعيش في سلام إجتماعي كما يحدث في الجزيرة ونهر النيل والشمالية.
* يجب على من يتبنى هذا الحديث الإنتباه إلى أن كل الهاربين من جحيم الحروب في دارفور وكردفان، والذين نزحوا في أوقات سابقة إلى مدن الوسط والشمال والشرق واستوطنوا المدن قد تشربوا بثقافة وسط السودان والتي تحترم الآخر وتعشق السلام الإجتماعي فأصبحوا ينتمون بالثقافة للشريط النيلي أيضاً، بل أصبحوا جلابة بذات التعريف الأعرج الذي يروج له الجهلاء وفي المستقبل سينصهروا في المكون الوسطي (المثقف) بالتزاوج والتصاهر ومن ثم تتحقق نظرية تكوين الأمم .. لذلك.. فإننا نلخص هذه القضية في أن المناطق التي يطلق عليها الشريط النيلي تسكنها قبائل مستعدة لقبول الآخر والعيش معهم على بساط من السلم في الحد الأدنى لما جاء في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، بينما تنتشر الإشتباكات والحروف والمجازر البشرية والصدامات القبلية في دارفور لأسباب في منتهى التفاهة.. يقتل الإنسان البريء في دارفور وكردفان أحياناً دون أن يعرف لماذا يقتل، وتقوم الحروب بسبب (لص أبقار) سرق من قبيلة أخرى واحتمى بقبيلته وبدلاً عن تسليمه للعدالة وإعادة المسروقات لأهلها كما أمر الدين، تحتضن القبيلة (اللص) فيتحول القصة من مسألة قانونية بسيطة، إلى اشتباك بين قبيلتين تكون نتيجته موت المئات من الأبرياء..!!
* قضية دارفور وكردفان (غرب السودان) ليست (ثروة)، لأنها ولايات أغنى من الشمالية ونهر النيل والجزيرة بالأدلة والبراهين ودليل على ذلك أن السلاح الموجود في أيدي الأفراد والحركات المسلحة بمافيها الحركة الشعبية بقيادة الحلو يكفي ثمنها لتشييد قصر لكل مواطن من دارفور وكردفان في إحدى المدن، وهي كذلك ليست مشكلة (سلطة) لأنها قد دفعت ممثليها في مناصب مؤثرة في القرارات المركزية وأصبح النواب وبعض الوزارات الإتحادية من الخارجية والمالية والداخلية والصحة والتعليم العالي والدفاع كلها ولفترة طويلة من دارفور وكردفان ولكنهم لم يقدموا شيئاً يذكر لأهلهم.. وكل من يتحدث الآن بإسم دارفور وكردفان، ابتداء بالحركة الشعبية (عبدالعزيز الحلو) وحركات دارفور المسلحة التي يفوق عددها ال(٨٤) حركة مسلحة، ومن ثم الدعم السريع المتمرد.. كلهم أساس نكبة الولايات مناطقهم.. وآلات قتل لأهلهم ليتراجع طموحات الإنسان البسيط هناك إلى أن يتوفر الأمن فقط ليتركوه يزرع أهله ويرعى مواشيه ويعيش حياته العادية بعيداً عن الفوضى.!!
.. نعود ونواصل..