أبوعاقله أماسا
* قبول قادة الجيش بإنشاء جسم موازٍ لهم، يسابقهم في التسلح ويناهزهم في العدد كان أسوأ موقف وقرار يتخذ في تأريخ السودان القديم والحديث، وهو القرار الذي ترتبت عليه كل هذه الكوارث، وبالتالي هو خطأ إستراتيجي إمتد واتصل بخطأ آخر، عندما عمد قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو إلى فتح باب الإنضمام أمام كل من ينتمي لقبيلته وقبائل غرب السودان من شخصيات غير مؤهلة لأن تكون جزءً من تكوينات تعيش في أطر قانونية منظمة، وقد عبرت عن ذلك خلال عشرات المقالات التي نشرت على هذه المدونة، ومن المفترض أننا في مأمن عن أمواج المزايدات التي تدور الآن في الساحة بعد أن حدث الخراب الأعظم في السودان، وعجلات الزمن لا تدور إلى الخلف لنصحح أو نبدل فيما وقع من أخطاء كارثية نتجت عن هذه الحرب، فلا الجيش إستفاد من إنحيازنا غير المشروط والمحدود له.. ولا الدعم السريع قد يستفيد من أي تعاطف معه الآن، غير أننا متمسكون بنهجنا في التعامل مع الحقائق مجرد، ليس كما سمعناها ورويت لنا، بل كما عايشناها لحظة بلحظة، وربما كانت من محاسن الصدف أن أقضي الخمسمائة يوم الأولى من الحرب مناصفة بين مناطق سيطرة الجيش ومناطق انتشار قوات الدعم السريع، وحدثت معي احتكاكات بين الطرفين عكست تناقضات غريبة حملت الكثير من العبر..
* طبيعتي كصحفي ترفض البقاء في مكان واحد، وأحياناً أميل للبحث عن تجارب جديدة وإن كانت شاقة، لذلك سافرت كثيراً من مناطق الجيش إلى مدن ماتزال تسمع بالحرب عن بعض ولم تعش أجواءها مثل شندي وعطبرة وبورتسودان والقضارف وكسلا.. وعندما غادرت الخرطوم إلى مسقط راسي ومكان مولدي في الجزيرة تمدد الدعم السريع وسيطر على ولاية الإنتاج الأولى في السودان.. في عملية تستحق أن نطلق عليها (الصدمة الكبرى) وبعدها أطلقنا العنان لمخيلتنا لنتوقع الأسوأ..!
* كتبت في الحلقة السابقة أنني كنت أتوقع أن أكون مستهدفاً من قوات الدعم السريع بعدما دخلت الجزيرة بإعتباري من المعارضين لتكوين هذه القوات والثابتين على آرائي بينما كان الآخرون ينعمون بالهبات والمخصصات من أموال محمد حمدان دقلو، ومع انتظار الأسوأ فوجئت بتعامل طيب من كل من تعرف علي وعلى هويتي الإعلامية، وزيارتين من صديقي المك أبوشوتال، وهو للعلم أكثر المتابعين لما أكتبه على هذه المدونة، وهو يعبر عن إختلاف مواقفنا بنوع من الوعي المفقود لدى معظم السياسيين.. وقد أشرت لكثير من المواقف التي تعرضت لها وأنا أتنقل في مناطق الجيش.. منذ السبعة أشهر الأولى من الحرب والتي قضيتها في أم درمان، كانت الأولى منها عندما سألني أحد أفراد الإستخبارات بعد الإطلاع على وثيقة إثبات الشخصية والتي كتب عليها مكان السكن (الثورة الحارة ٧٦).. وكان سؤاله: هل يتواجد عدد كبير من الدعامة في منطقتكم؟
* شعرت بأن الرحل لم يستوعب حقيقة أننا لم نر أي فرد من الدعم السريع في منطقتنا لأننا في الحقيقة نعيش في حرم أكبر منطقة عسكرية في السودان، وبين منزلي وحرم منطقة وادي سيدنا العسكرية أمتار قليلة..!!
* حتى تلك اللحظة كانت فكرتي عن رجل الإستخبارات أنه الأعلى تأهيلاً.. ليس من الناحية الأكاديمية، بل من الجانب المهني المتعلق بأداء مهامه، وأنه شخص رسمي وعسكري مختلف عن بوليس الآداب والنظام العام وحملات الخمور مثلاً، وأكثر إنضباطاً في مسألة التحقيق للوصول إلى المعلومة، بل وأكثر ثقافة ومعرفة لما يتعلق بمهنته، ولكن كثرة المواقف السالبة نبهتني إلى أن الإنحلال الذي حدث في كل مفاصل الدولة في الفترة الممتدة من آخر عشر سنوات من عمر حكومة الإنقاذ، يضاف عليها الأربع سنوات من عمر الفترة الإنتقالية وقد أصاب (البلى) كل أجهزة الدولة..!
* أول مرة أغادر فيها أم درمان إلى عطبرة وشندي كانت المهمة إنسانية في المقام الأول، حيث كانت أولى آثار الحرب على القطاع الصحي، وأول من تأثر بها الإمداد الدوائي، حيث انقطعت أدوية الأمراض المزمنة (الضغط،السكري،القلب،الروماتيزم،القاوت) وغيرها عن الصيدليات، فأطلقنا مع مجموعة من الأصدقاء مبادرة من صيدليات شندي وعطبرة، وكنت أسافر لهذه المهمة شهرياً، وفي أكثر من مرة يتم التحقيق في هذه الأدوية، رغم أنها في العدد لا تتجاوز ١٥ صندوقاً أغلبها (أماريل) علاج ومنظمات سكري.. فهل هنالك سوداني لا يعرف أدوية السكري والضغط؟
* في واحدة من المواقف الغريبة، كنت عائداً من عطبرة وقد تأخرت فيها وتحركت بعد منتصف النهار بسيارة طرحة إلى شندي، على أن أواصل بأخرى من شندي إلى ام درمان، في موقف شندي جوار الإستاد إمتطينا سيارة صغيرة وتحركنا نحو أم درمان على أمل وصولها والعبور إلى داخلها قبل الساعة الخامسة موعد الحظر، ولكن في صينية المتمة، إعترض رجال الإستخبارات على السيارة التي نستغلها وقرروا اقتيادها إلى قيادة الفرقة التالتة لأن سائقها لم يبرز ما يثبت ملكيته لهذه السيارة وبما أنها مسجلة بإسم شركة فهنالك شبهة سرقة..!!
* قضينا هناك حتى التاسعة مساء دون أن نعرف دور ركاب السيارة في هذه المشكلة، ولم يفصل أحد في الأمر إلا بعد وصول ضابط برتبة رائد وسأل عن المشكلة وعن أربعتنا، فقلنا أننا ركاب هذه السيارة.. فسأل: ماذنب ركاب السيارة في مخالفة ملكيتها؟.. وتفضل بعدها بتصديق سيارة أعادتنا إلى الموقف..!
* الموقف التالي كان بعد إجتياح الجزيرة والإنسحاب المخزي، وكان علي أن ألبي حاجة نفسي إلى الترحال والسفر، فغادرت من منطقتي بالجزيرة إلى القضارف، وبعد الإستفسار عن الطريق حملت معي جواز السفر دون أي أوراق ثبوتية أخرى وكانت الأسئلة عادية في كل نقاط الدعم السريع إلا في الحصاحيصا عندما طلب مني أحدهم إثبات شخصية، فأخرجت له الجواز، فسألني عن المهنة… قلت له أنني مزارع.. أردف بسؤال آخر: بتزرع يين؟.. أجبته: في مكتب أم دقرسي.. فكان تعليقه: شكلك ده ماشكل مزارع.. إبتسمت وسألته: ليه ياخي.. إنت شايفني ناعم والا شنو؟.. فضحك وانصرف..!
* كنت مضطراً لإخفاء هويتي كإعلامي، وألا أبرز أية بطاقة تشير إليها على طول الطريق إلى القضارف، وعندما وصلنا إحدى ارتكازات الإستخبارات في منطقة (المقرح) سألني أحدهم: إنت شغال شنو؟.. فأجبته بدون تردد: صحفي.. فقال لي بأسلوب عصبي لا يتناسب مع الموقف البتة: أنزل هنا… نحن دايرين الزيكم ديل.. كان كل ركاب الحافلة ينظرون إلي.. فنزلت.. ووجدتهم مختلفين وقد علت أصواتهم، وسبب الإختلاف كان في تفتيش النساء.. فقال أحدهم: ما بنبقى زي الدعامة نفتش النسوان، وأمر بصعود الجميع إلى أماكنهم.. وكفى الله المؤمنين القتال.. فقد كنت أنوي سؤال ذلك الفرد من الإستخبارات عن الجريمة التي يرتكبها الصحفي.. هل هي خيانة للوطن مثلاً؟
* في إحدى نقاط التفتيش كان الجميع شاهدين على حادثة شاب ربما كان من أميز الشباب الذين رافقونا في تلك الرحلة، وبما أن معظم ركاب الحافلة كانوا من الأسر الهاربة من مناطق طابت وصراصر وفطيس وأرياف غرب الحصاحيصا، فقد إحتاجت بعضها للمساعدة خاصة أن من بينها كبار السن، فكان ذلك الشاب سباقاً إلى ذلك، ومن مواقفه أنه أجرى إسعافات أولية لسيدة في نهاية الخمسينات، حدث لها هبوط عام وكادت أن تدخل في غيبوبة سكري فأسرع وأجرى لها مايلزم بينما انخرط بناتها في البكاء وتوتر جميع من كان في الحافلة..!
* هذا الشاب تعرض للضرب والإهانة بصورة تحمل من البشاعة والقسوة ما لا يتخيله عقل، وأمام مرأى الجميع، وهو ما دفع النساء للبكاء بحرارة تأثراً لذلك الشاب لأنهم لم يرون منه إلا كل مايوحي بأنه شاب محترم وبن أسرة محترمة.. وبعد كل ذلك أطلقوا سراحه فعاد إلى المركبة، وعرفنا منه أن كل جريمته التي عوقب عليها أنه من مواليد منطقة (الحاج يوسف) بشرق النيل.. وعرفنا بعد ذلك أنه في طريقه إلى إثيوبيا لإكمال إجراءات سفره إلى السعودية ليتعاقد ككادر طبي مع إحدى المستشفيات..!!
* مواقف رجال الجيش في المعابر على مرارتها، تحمل مؤشرات واضحة إلى أن الدولة بكل إمكانياتها البشرية لم تصل إلى تصور واضح لما يحدث في البلاد الآن، وأن سوء التقدير ملازم لها في قراراتها ومواقف المسؤولين كأفراد والحكومة بشكل جماعي.. وفي الحلقات القادمة سأروي المزيد لإثبات سوء التقدير وأن الجميع يسهم بطريقة أو بأخرى في صناعة كارثة ستقضي على البلاد تماماً… على الأقل لأنها أوصلت الجميع إلى محطة تعصب وتشنج لم يسبق أن وصلها الشعب السوداني..!!
نعود ونواصل