صَـابِنَّهَـ
محمد عبد الماجد
مَجْـنون مَـع وَقفَ التّنفِيذ
لا أعرف كيف أضحت الخرطوم الآن، ظنِّي أنّـك تحتاج إلى الوصف عشان تصل بيتك، حكاية حيطة تتمغى وتفلع دي كنا شايفنها مستحيلة ونحن نشاهد سيناريوهاتها عند حمّيد، هسه الحيطة بقت تتمغى وتمد إيدها وترفع رأسها وتخنقك، وتبقى ليك في رقبتك، يا ريت لو وقفت على الفليع.
الحيطة بقت تفلع وتطعن.
السودانيون في العادة، منقسمون بين البجدع والبجيب الحجار، هسه في زمنّا دا زمن الحرب، البجيبوا الحجار بقوا أكتر من البيجدعوا.. في فئة ثالثة وهي أخطر طبعاً وهي التي لا بتجدع ولا بتجيب الحجار!!!
الناس البيجيبوا الحجار في هذا العصر، هم ناس مواقع التواصل الاجتماعي، ديل شغلتهم هي أن يجيبوا الحجار، يعلقوا ويشعللوا في النيران، وينقلوا من هذا إلى ذاك.. حربنا دي حرب ناس بجيبوا الحجار ما حرب ناس بجدعوا.
الفليع والفليق والجديع كلها ممكن تكون لحاجة واحدة، وهي أن تشيل ليك حجر وتضرب ليك زول بينك وبينه مسافة، دا تفسيري لهذه العملية.
وحسب رأيي، دا ما رأي علمي، الجديع، هو أن تصوب الحجار وتجدعه بصورة عشوائية ـ زول بجدع ساكت.
الفليع هو أن تقصد هدفاً معيناً دون أن تصيبه.
الفليق هو إصابة الهدف.. يقال فلان فلقني في رأسي أي أصابني، والزول دا مفلوق أي مضروب، إنت ما بتقول الزول دا مفلوع أو مجدوع، المفعول به بيأتي من (الفلق) أو (التفليق)، والله أعلم.
حمّيد كان عنده حاجة غريبة، طبعاً حمّيد دا نحن لسه ما وصلنا لاكتشافه، لسه بالنسبة لينا بحر غريق، عند حمّيد غموض غريب يجعله أكثر غموضاً عندما يريد أن يكشف وضوحه، أليس هو من كتب (يا مختبية خلف وضوحك)، دا غموض وصل أقصى حد فانعكس إلى ضده، وصل درجة الغموض، (وين ما أقبل ياني بروحك)، دي زي حكاية الزول البكون عاوز يمرق من شارع، يلف ويدور، ويلقى نفسه في نفس الشارع.
أو زي الشُّـفّع البتلقاهم بيشبهوا أبوهم شبه مبالغ.. تصوير مستندات بس، وفي أولاد مساليط بيلبسوا مع أبوهم.. ولدك لمن يلبس من دولابك خاويه.. شبشبكم لمن يبقى واحد ـ الكتوف إتلاحقت.
الغريب عند حمّيد والذي قصدت الوقوف عنده، حكاية (الفليع) دا كتب فيه (مرة شافت في رؤاها.. طيرة تاكل في جناها حيطة تتمطى وتفلع في قفا الزول البناها فسرت للناس رؤاها.. قالو جنّت وما براها).. شوف أنا في موضوع (الفليع) دا وإن كان من حيطة للزول البناها ما عندي مشكلة.. الموضوع ممكن يمشى عادي، مشكلتي أنّها بتفلع في (القفا)، ودا شغل مع الخيانة ونكران الجميل فيه جبن.
حمّيد في (الفليع) دا عنده برضو (إنتي يا حضن الصحارى شفع العرب الفتارى البفنو الشايلا إيدهم ويجرو كايسين القطارة).. تفن الحجر يعني تجدعو.. يعني تفلق بيه، فنوا هو فعل أعمق من فلقوا، لأن فنوا فيها حركة، فيها صوت، فيها دراما.. موش في الوصف الصوتي ممكن تلقى زول يقول ليك جدعت الحجر (فننن). بهذا القول كأنك بتشوف الحجر طاير في الجو.
ونحن الفليق والجديع والفليع ارتبط عندنا بالمجانين ـ يقال فلقك أو فلعك أي أصابك في رأسك الكبير دا بحجر، والمجانين بجدعوا بالحجار، ما عارف السر في ذلك شنو؟ لذلك هنالك ملمح (جنون) أو (جن) في الصورة التي قدمها حمّيد للحيطة (قالوا جنّت وما براها) أو حتى بالنسبة لشُفّـع العرب الفتارى، لأن شغلهم دا ما شغل ناس نصاح.. وفي الاتنين بُعدٌ حسي عجيب، في الأولى قصد حمّيد (الخيانة) وعدم الوفاء ونكران الجميل (حيطة تتمغى وتفلق في قفا الزول البناها) أو (طيرة تاكل في جناها)، وفي الثانية في عدم قناعة في شفقة وخلعة (البفنو الشايلا إيدهم ويجرو كايسين القطارة)، الكلام دا كبير شديد، الموضوع دا عاوز ليه قعدة.
حمّيد عنده رؤية استباقية هذا أمرٌ مفروغٌ منه، والناس أثبتوها بالورقة والقلم، لكن الذي اتمثل به الآن لحمّيد يـحدث في الخرطوم بالملي.. حيط تفلع وطيرة تاكل جناها والبفنو الشايلا إيدهم ويجروا كايسين القطارة.. خلو دا كلو وشوفوا حكمة (الرجعة للبيت القديم)، ناس الخرطوم كلهم رجعوا للبيت القديم.. المشكلة حميدتي شايف الكلام دا فيه قصاص ليهم، وما أعطته الخرطوم لحميدتي لم تعطه لمحمد خير المحامي، الذي كانت السياسة عنده مثل شراب الشاي، السياسة كانت عنده فناً، وما أعطته الخرطوم لحميدتي لم تعطه لمحمد أحمد المحجوب الذي يتحدث مائة لغة، يخاطب الخواجات بلغتهم وما بفهموا فيها حاجة، وما أعطته الخرطوم لحميدتي الذي انقلب عليها، لم تعطه الخرطوم لإسماعيل الأزهري الذي رفع علم الاستقلال أو عبد الفضيل الماظ الذي مات وهو حاضن مدفعه من أجل الاستقلال.
في تاريخ السودان في الباسلة والشجاعة، مات عبد الفضيل الماظ وهو حاضن مدفعه، ومات عبد الله التعايشي مع رجاله بعد أن فرش التبروقة وقعد فيها مستقبلاً للموت ـ نختلف أو نتفق مع عبد الله التعايشي الصورة التي مات بها صورة شجاعة.
زمان في الخرطوم كنت بسمع صوت (الفريدة) لمن تقع في الواطة، تسمعها ولو كنت في آخر البلد.. البلد كانت هادئة وراقية.
الفريدة دي هي غطاية قزازة البيبسي أو الكولا.
الخرطوم كانت عاصمة محترمة، بحري، أم درمان أي منطقة كان عندها خصوصيتها، هسع البيوت فيها فقدت خصوصيتها.
قفزت من الخرطوم للقاهرة وما بين الخرطوم والقاهرة حبلٌ من الــود، في صلة رحم عملها النيل، صلة مويه أقوى من صلة الدم.. أمشي في شوارع القاهرة كما كنت أمشي في شوارع الخرطوم، وأنا عندما أحب مدينة أهيم في شوارعها.
مرة كنت ماشي في أحد شوارع القاهرة والكلام دا جد ما كلام جرائد سمعت لي مجنون بقول (القارات كلها بقت فارغة.. ثم يمتعط أكثر وينفعل وصوته يرتفع ويلوِّح بيديه ويضيف وأنا ما اقدرش أوديك لي قارة فارغة)، ظل يُكرِّر هذه العبارة وأنا أسير خلفه في شارع طويل ومزدحم، قلت في نفسي بالله شوف المجنون العاقل دا، مجنون عندو أخلاق ما عاوز يودي ليه زول لقارة فارغة.
ثم عُـدت وقلت في نفسي مرة أخرى، الزول دا قاصد شنو؟ هل القارات فعلاً بقت فارغة، الحروب تكاد أن تفرغها.
بعد كم يوم، مَــرّيت مرة أخرى بنفس الشارع ووقعت عيني على نفس المجنون الذي كنت قد شاهدته قبل أيام، لكن هذه المرة كان صامتاً ويبدو عليه أنه أكثر حزناً مما كان عليه قبل أيام، قلت أشوف الحاصل شنو؟ اتوكلت واقتربت منه وقلت ليه (القارات كلها فارغة، وأنا ما اقدرش أوديك لقارة فارغة)، المجنون اتبسط وقلبه انشرح وقال لي موش كدا عليك الله، أنا قلت ليهم كدا لكن ما فيش حد راضي يصدقني.. ثم انطلق مني مهرولاً وهو سعيدٌ وكأنه سجّــل هَــدفَـاً.
قعدت أفكِّـر في كلام هذا المجنون.. العقلاء بقوا ما فيهم رجاء، الحكمة تخرج من أفواه المجانين، يمكن نلقى الحل عند مجنون..(كأنها حكمة المجنون يرسلها بغير وعي فلا تصغى لها أذن).
نحن مُحتاجين لينا لي زول مجنون لكن عاقل، العقلاء ديل قنعنا من خيراً فيهم، كلهم بقوا يفكروا في مصلحتهم الخاصّـة وما عندهم قضية بمصلحة البلد.
نحن محتاجين لأفكار خارج الصندوق، عاوزين بس نفكر خارج الصندوق ما أكتر من كدا، والتفكير خارج الصندوق جنونٌ، عشان كدا نحن مُحتاجين لينا مجنون محترم، مجنون عاقل، مجنون عارف بيعمل في شنو؟
في ناس ما عندهم مشكلة مع المجانين، بقولوا ليك (الجن بتداوى كعبة الإندراوة)، مشكلتهم مع الإندراوة، والإندراوة هي هطرقة الناس العاقلين، وفعلاً ديل أخير منهم المجانين، الواحد من ديل تلقى بتكلم في أي موضوع، ما بسكت، وبتلقاهو برضو زول هباش ما بقعد ساي، مقلق ومندرو.
هسه الشغل البعملوا فيه الجماعة ديل شغل إندراوة.
في واحد ضربتـه مُسيّرة، الناس خموه وجروا بيه على المستشفى.
الدكتور عاين ليه كدا، وقال ليه أفتح خشمك؟
صاحبنا قال للدكتور: يا دكتور أنا المُسيّرة دي ما ضربتني في ضرسي.
الجماعة فجأةً انتبهوا أنهم ودُّوه لدكتور أسنان.. قاموا وحاولوا يعتذروا للدكتور، الدكتور قال ليهم أبداً ما في مشكلة، أنا طبيب أسنان فعلاً، لكن في الحرب دي بنشتغل أي حاجة، قبل يومين عامل لي عملية تركيب دعامات.
الجماعة قعدوا.
الدكتور كتب ليهم حبوب بنادول.
الجماعة قالوا ليه يا دكتور الزول دا ضربتو مُسيّرة، ما عنده صداع، حبوب البنادول ما بتعمل ليه حاجة.
الدكتور قال ليهم شوفوا نحن ما عندنا أكتر من البنادول، ما في أي مستشفى بتلقوا فيها أكتر من البنادول.
قالوا ليه طيِّب يا دكتور أكتب ليه دِرِب.. عشان نفسياً ساكت يشعر بي راحة.. قال ليهم، وزارة الصحة مشددة علينا ما نصرف أكتر من البنادول لكل الذين ضربتهم مُسيّرة، الدِّرِب بنكتبه للزول الضربتُه (ميج)، إنتوا فاكرين الموضوع فوضى، لو عاوزين دِرِب في (ميج) حايمة فوق رأسنا ليها ساعة، طلعوه، خلوها تضربُه وجيبوا لينا نركِّـب ليه دِرِب.
واحد من الجماعة قال ليه هو الهدف من العلاج الدِّرِب والّلا الميج؟ يعني عشان تصرف لينا دِرِب إلّا تضربنا ميج، والله الدِّرِب عندكم غالي شديد وعنده قيمة.. بعدين الضمان شنو، يمكن الزول دا مع ضربة الميج يروح فيها.
الدكتور قال ليهم، حتى لو مات بنصرف ليكم (الدِّرِب).. ما عندكم مشكلة.
الزول المصاب قام يتنفض، وقال للدكتور وأنا وقت أموت، الدِّرِب عاوز بيه شنو؟ عليكم الله أبقوا مارقين.. أنا لا عاوز بنادول ولا عاوز دِرِب، بس شوفوا لي فـولة حارة كدا مع الشطة والدكوة والليمون، ببقى زي الطلقة.
واحد تاني من الجماعة قال ليه، ونحن فـولة حارة نجيبها ليك من وين في الحرب دي؟ فـولة حارة دي إلا يدخل فيك قطر عشان تلقاها.. أسهل لينا تضربك ميج ونركِّب ليك دِرِب.
الراجل مات.
مات من المغصة ما من المُسيّرة.
…
متاريس
نحن عادةً بنعرف قيمة الزول بعد أن نفقده، خاصةً لو الزول دا كان «مدرب»!!!
الهلالاب ح يعرفوا قيمة فلوران بعد ما يفُــوت!!!
وسط الجوطة دي كلها المدرب كفاح صالح طالب باستمرارية فلوران، وأشاد به.. وشهادة قيِّمة من مدرب شِفت اسمه كفاح صالح.. يحفظ ذلك لكفاح.
أنا بستغرب من المدربين ديل بتكلموا عن ضرورية الاستقرار وبدعوا في نفس الوقت للإطاحة بالمدرب!!!
أي مدرب عندهم فوقه رأي ولمن يشيلوا المدرب يهاجموا الإدارة التي أطاحت به وبقولوا ليك المدرب هو الضحية، وهو الشمّاعة، وهو البدفع الثمن، والمدربين بعملوا ضد بعض وبدعوا دائماً لأن يشيلوا المدرب.
حتى الزملاء الإعلاميين بدعوا للاستقرار وبقولوا لازم يكون في استقرار فني وهم بضغطوا في نفس الوقت من أجل الإطاحة بالمدرب.
تناقض عجيب!!!
إنت مع الاستقرار الفني يجب أن تكون مع الاستقرار في كل الأحوال.
ما في حاجة اسمها المدرب دا ما نافع.. مَـن يحدد ذلك وما هي المعايير؟!!
الأرقام التي حقّقها فلوران مع الهلال هي الأفضل على مدى سنوات طويلة.
اللاعبون الذين ظهروا مع فلوران هم الأكثر عدداً من كل الذين ظهروا وتألقوا مع غيره.
حتى الأداء أنا شايف أداء الهلال مع فلوران أفضل.
الانضباط والالتزام والأخلاق لا أعتقد أنّ الهلال في تاريخه مٌــرّ عليه مدربٌ بهذه الصفات.
تاني عاوزين شنو؟!!
يحدث ذلك رغم ظروف البلد والحرب، ورغم أنّ الهلال يلعب خارج السودان وهذه ظروف تعرض لها فقط فلوران.
أي مدرب آخر غير فلوران في مثل هذه الظروف كان سوف يجعل الهلال يتنافس مع المريخ على المركز السادس في الدوري الموريتاني.
أنا بتمنى فلوران يرحل، عشان الناس تعرف قيمة هذا المدرب وعشان نشوف الفـــرق!!!
أصلكم لمن تنقوا في الشئ، ما بترتاحوا لو ما «اتفرتكت وباظت».
…
ترس أخير: قــدر ما نقــول نقفــل الموضـوع دا تفتحــوه لينا تَــاني!!!