صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

سُـودان السّاعة “اتنين ونص”

65

صَـابِنَّهَـا
محمد عبدالماجد

سُـودان السّاعة “اتنين ونص”

يُخيّل لي أنّ الأجيال الحديثة، قد استلمت السودان بعد الحرب من الأجيال السابقة خالي (إبداع)، بعد أن سلبوه وسرقوه وشفشفوه ومزّقوه وسلّموهم السودان تسليم أهالي، مثل (الشقة الفاضية) التي عليك أن تشطبها وحدك، وتشوف كهربتها وحدك، وتجيب مويتها وحدك، وتفرشها وحدك، وتسكن فيها بعد ذلك وحدك.
مسكين الجيل الجديد، انظر لهم بإشفاق، فقد استلموا وطنهم بعد أن دفعوا أرواحهم وأعمارهم من أجل خلو الرِّجل التي حاولت أن تستعمر وطنها من جديد ـ لقد كانوا يستعمرون بلادهم، ويذلون مواطنيه، ويحتلون بيوتهم.
الانتماء للوطن هو انتماءٌ للإبداع وارتباطٌ به، الارتباط بالأرض هو ارتباطٌ بإسماعيل الأزهري ومبارك زروق ويحيى الفضلي وعبد الله الطيب ومحمد المهدي المجذوب والطيب صالح والفريق أبوكدوك ومحجوب محمد صالح وأحمد سليمان ضو البيت وليلى المغربي ونجاة كبيدة وماما عائشة ووردي وعثمان حسين وعائشة الفلاتية وإبراهيم موسى أبا والنعام آدم وجكسا ومصطفى النقر وسامي عزالدين وحامد بريمة وعزالدين الصبابي.
الانتماء للوطن هو انتماءٌ لمدائح أولاد حاج الماحي، فيها شئٌ من الانسياب (الجغرافي) المريح.
النيل هو ليس مجرد نهر نزرع ونشرب منه ـ النيل عندنا مشوار عصاري، وفيضان ذكريات وحكاوى.
النيل هو النهر الوحيد في العالم الذي يجري في العروق ـ نعشق هذا النيل للحد الذي يجعلنا نحسب أن مويته (شربات)، بل نشعر بذلك.
النيل كان موضوعاً لنا، نشرب منه ونغرق فيه ونحمل له كل الحُـب ـ نشعر دائماً إننا مدينون بالفضل له، بنشعر أنّ جمائله (مُغرِّقانا).
كنا بنحسد من يغرق في النيل.
لا أعرف كيف سوف تنشأ الأجيال الجديدة في هذه الأجواء العكرة، ونحن قد قمنا على إحساس واحد وشعور يجمعنا كلنا، كنا بنسمع عبد العزيز محمد داوؤد في نفس الوقت، وكلنا بنشاهد المسلسل اليومي سوا، وبنحضر نشرة تلاتة شراكة، وبنتلاقى الساعة اتنين ونص في عالم الرياضة في البيت ـ الشعب السوداني الساعة اتنين ونص كله بكون في البيوت.. بنتبادل الكتب والمجلات والجوابات وشرائط الكاسيت، كان يجمعنا دافوري واحد وبتلمّنا صينية الغداء، السودان دا كله كان بيأكل في الغداء صنف واحد، كلنا كنا بندك الحصة الأخيرة، لغاية الآن ما عارف الكان بحضر الحصة الأخيرة من دفعتنا من ورانا منو؟
أية حفلة في السودان كانت بتبدأ بـ(اسمعنا مرة)، كنا بنسمع.
ناس الحلة كلهم كانوا بتعارفوا، وبنعرف غنماية السارة بنت الحسين وديك الحاجة آمنة، ودجاجة رحمة بنت الطيب، وكلب عثمان ود الكارب.. وبنفرز ريحة قهوة عائشة بنت الفراش.
لو لاقتك شافعة الحسن ود المخدوم وسط ألف شافعة بتعرفها، بتطلعها بالشبه من وسط مائة طالبة.. ولو ما عرفتها بالشبه بتعرفها بقميصها الأخضر الوحيد.
اتنين في اتنين كانت بي أربعة، ودجاجي كان يلقط الحَـب، ومالك الحزين كان مع حزنه فرحان بينا واليوم كان فيه تلات وجبات واليوم 24 ساعة.. والسبت كان يوم تقيل في المدرسة، وعندنا رأي جماعي في أستاذ اللغة الإنجليزية.
كلنا كنا ما حافظين جدول تسعة، عندنا معاه مشكلة، حتى في الحفظ وعدم الحفظ متوحدين، في الفهم وعدم الفهم، الفرق كان بين الأول والطيش 5 درجات.. بين الغني والفقير ما كان في فرق.
بنسافر بالقطر واللواري وبنكتب بقلم الحبر، لأننا فرحانين بيه.. بنحب الجرائد، وكلنا كنا عاوزين نسافر بلاد برّه، وعاوزين نبقى دكاترة، وعاوزين نعرس في العيد.
الدنيا كانت بخيرها، والسودان كان يسع الجميع، ما في زول عندهُ مشكلة مع زول ولا بنتذكر لينا زول مشى ليه نقطة شرطة أو وقف ليه قدام قاضي.
ناس مرضى السكري، كان الواحد فيهم لو ضرب ليه صينية باسطة براهو ما بتعمل ليه الحبة.
مافي زول كان عاوز ليه حاجة من زول.
الطبيب كان مافي زول بمشي ليه ـ الناس كان بتكتفي عندما تمرض بالحلبة والقَرَض والمحريب والحرجل ـ الناس صحتها كانت زي الحديد، ما بتسمع ليك زول بيشكي من السكري أو وجع الكرعين، أو الضرس، وكان الموت قليل، من غرابته تسمع بيه فقط في نشرة تلاتة.. هسه لو تلفون ضرب، يقولوا ليك فلان مات ـ الزول دا أمس كان واقف معاي!!
بقينا نخاف من التلفونات.
الوقت كان ممهولاً، اليوم فيه صباح ونهار وعصر ومساء وليل، الساعة كانت 120 دقيقة، ويوم 30 في الشهر بمر في السنة مرة.. كنا في اليوم بنعمل ألف حاجة، بنقيِّل وننوم ونشرب القهوة ونغسل ونكوي ونلعب كورة ونمشي الحفلة، وما بنعرف نودي باقي الليل وين؟
هسع لو عاوز تطلّع من اليوم (العصر)، إلا تضحي بالنهار، ولو عاوز تشوف الصباح، إلا تنوم من خمسة، بقى في شحتفة وقت.
ولو عندك مشوار أقنع من يومك، ولو واعد ليك زول عاوز ليك خميس وجمعة.
بين الجمعة والجمعة كنت بتشعر إنك كبرت، هسه الجمعة بقت تجي وتفوت قبل ما تطلِّع جلابيتها.
الحاصل شنو؟
في 24 سبتمبر الماضي، قرأت خبراً يتحدّث عن الذكرى 14 لرحيل الفنان زيدان إبراهيم، وأنا ما زلت أذكر إنّي أكلت بصبحة عادل إدريس والكاريكاتيرست نزيه حسن “سمك” مع زيدان إبراهيم في بيته بالحاج يوسف مازالت رائحة السمك في يدي لغاية الآن ـ معقولة الكلام دا مر عليه أكتر من 14 سنة.
السر في السمك أم في فراش القاش؟
الأيام بقت تجري، بقينا نخاف، بقينا نشعر بالشفقة.
الناس ديل سرقوا زمنّا، شفشفوا عُمرنا ـ يا ريت لو الموضوع وقف على شفشفة التلاجات والشاشات والموبايلات.
لغاية الآن أنا ما عارف كيف نحن كنا بنأكل ثلاث وجبات في اليوم؟ وبين الوجبة والتانية بتكون شايل صحنك وواقف لي أمك في المطبخ بتبحث عن (تصبيرة) أو (سندة) قبل الوجبة الرسمية.. بتقرِّض ليك رغيفة أو حرف كسرة.. (حرف دي طبعاً ما ح يفهموها لي)، حرف دي يعني (طَرقة)، كأنهم ح يعرفوا (طَرقة) يعني شنو؟
نحن كبرنا للدرجة دي؟
كنا بنشرب شاي اللبن بالكباية الكبيرة في الصباح والمساء، ولامن تكون مافي زلابية بتشوف باقي الْعَشَاء، وبعد دا ما بنفرط في أي وجبة ـ هسه لو شربت ليك كباية شاي لبن في الصباح ما بتقدر تفطر.
زمان كنا في اليوم الواحد، بنمشي المدرسة في الصباح ونخش الاستاد في العصر وندخل السينما في المساء ونحضر الحفلة في آخر الليل ونقوم الصباح زي الحصين.
ما قادر استوعب لغاية الآن أنّ السودان دا في وقت واحد كان فيه حسن عطية وأحمد المصطفى وسيد خليفة وإبراهيم عوض وعثمان حسين وعبد العزيز محمد داؤود والتاج مصطفى والعاقب محمد الحسن وعبد الكريم الكابلي ومحمد وردي وصديق أحمد وحمد الريح وصلاح بن البادية ومحمد ميرغني وعبد القادر سالم وعثمان مصطفى وصديق عباس وزيدان إبراهيم والطيب عبد الله.
وبي هناك محمد أحمد عوض وخلف الله حمد ومبارك حسن بركات وبادي محمد الطيب وكمال ترباس وعبد الله محمد وعبد الله الحاج وعبد الوهاب الصادق.
عيييك يا زول أقيف ما تحرجنا.
ما قادر استوعب أنّ الهلال في وقت واحد كان فيه تنقا وطارق ومجدي والثعلب والديبة وحمد والعوني ومنقستو والريح مصطفى وأسامة الثغر ووليد طاشين.
نشرة الأخبار في وقت واحد ممكن يقدمها الفاتح الصباغ وعبد الرحمن فؤاد وإسحاق عثمان.
تخمة عجيبة.
مشكلة السودان الحالية، أننا فقدنا معظم الرموز في السياسة والأدب والفن والرياضة والثقافة والحياة.. بقينا قاعدين في الصقيعة، السودان في هذه الحرب فَقَدَ أسماءً عظيمةً، وفَقَدَ ذاكرته كذلك.
خبِّروني هل النيل مازال يجري؟ وهل مازالت قماري سيد خليفة تبني عشها قشة قشة أم عملت ليها حركة مسلحة؟ ود أبرق هل لغاية الآن متحفظ؟
ونحن طلبة كان هنالك عباقرة في السودان، وكان هنالك مبدعون في أي مجال ـ كنا بنحترمهم جنس احترام، نتابع أخبارهم ونقرأ لهم بنهمٍ ونسمع عنهم بشغفٍ، وما كنا بنقبل فيهم أي كلمة.
كنا بنحبهم في الله، ونشعر بجميلهم علينا.
من هم قدوات الجيل الحديث؟ ـ نحن الأستاذ في المدرسة كان قدوتنا، الجار في الحي قدوتنا ـ التاجر والطبيب وسواق البص، أي واحد كان قدوة لينا بثقافته وأخلاقه ووطنيته.
خالك كان قدوة وعمك قدوة وأخوك الكبير قدوة وأختك قدوة ـ أي زول كان قدوة لأنه كان يمتلك مقومات القدوة الحقيقية.
سيد اللبن ممكن يكلمكم عن مسرحيات شكسبير.. هملت وعطيل.
سيد الدكان عارف أية حاجة.. ممكن يتكلم ليك عن تولستوي وملفيل وبروست.
أشعر الآن بفراغ ثقافي عريض ـ هنالك جفافٌ وتصحرٌ في الإبداع ـ وشحٌ في القدوات، من أين يستمد أبناء هذا الجيل صمودهم وثقافتهم ووطنيتهم..؟ البلد بقت فاضية.
الأكيد عندهم وسائلهم المختلفة وطرقهم الخاصّـة، والحديث عن الأجيال الجديدة، ولكل زمان رموزه ولكل جيل أسلوبه ـ لكن مع ذلك أشعر أنّ جيل السوشيال ميديا مظلوم، لأنّ ثقافته أصبحت (قشرة)، مجرد (بوست)، ولأنّ العلوم والمعرفة أصبحت مجرد (نيوز)، ليس هنالك عمق ثقافي، كما كان في شعر حمّيد وأغاني مصطفى سيد أحمد وكتابات أبو آمنة حامد ومنصور خالد.
نحن زمان كنا بنحترم الإذاعة ونجلس بأدب لكل برنامج وكنا بنتابع التلفزيون ونتعلم من أي حاجة ـ تعال شوف نظرة الأجيال الحديثة للإذاعة والتلفزيون الآن ـ شوف نظرتهم لرموزنا الجميلة.
أكتب عن رموز السودان لأنني صدمت برحيل المبدع والكاريكاتيرست ادمون منير.. الزول دا أسس في دواخلنا معرضاً للفنون الجميلة.
ادمون منير تقول سيرته إنه دخل التلفزيون بعجلة جاء بها من الخرطوم بحري، لم يدخل التلفزيون بدبابة، ولا واسطة ولا توصية عليا، مع ذلك أحدث فيه كل هذا الأثر.
ادمون منير لغاية الآن في ناس ما عارفين قبيلته شنو؟ ادمون كان قبطياً وأفضال الأقباط على السودان كثيرة.
قبيلتك شنو؟ دي حاجة ما كانت بتهمّنا.
الجيل الذي لا يعرف ادمون منير، هو جيل مظلوم، جيل محروم من الإبداع، فقد وضع ادمون منير بصمته في أهم واجهة للسودان ـ وضع بصمته على شاشة تلفزيون السودان.
الذين لم ينتظروا السهرة ولم يستمتعوا بـ(سهرتنا الليلة) فاتهم الكثير، ما كان يقدم في الشاشة بريشة ادمون منير هو شئ أشبه بما تشعرون به الآن في أهداف لامين يامال.. أحدثهم بلغتهم.
كنا ننتظر أن يحدث عطب حتى نستمتع بـ(لحظات ونواصل البرنامج)، السودان كان مبدعاً في كل شئ حتى في (الأعطاب)!
كانت هنالك ثقافة اعتذار عندما يحدث خطأٌ أو خللٌ أو عطبٌ للحظات، هسع لو وقعت فيك دانـة مافي زول بعتذر ليك، ولو قطعت الكهرباء من الشبكة القومية مافي جهة بتشرح ليك الحاصل.
نحن الأمة الوحيدة في العالم التي كان ماضيها مُتحضِّراً ومُتقدِّماً أكثر من حاضرها، نحن الدولة الوحيدة التي كلما أشرقت فيها شمس يوم جديد، حدث تراجعٌ في الخدمات وفي الكهرباء والمياه والثقافة ـ حتى جامعاتنا تتراجع عاماً بعد عام.
الناس كانت فاهمة وراقية وحسّاسة، المتعلم والجاهل كلاهما كان مثقفاً وعارفاً وله ذوق.
الفنان كان فناناً في كل شئ، شاهدت فيديو لعشة الجبل تهاجم فيه هبة جبرة، أرجو أن كون ذكرت الأسماء صحيحة.. قلت كيف أصبحت عشة الجبل فنانة؟ إذا كانت الفنانة بهذه الصورة كيف يكون المتمردون والخوارج والمرتزقة؟!!
أحمد المصطفى كان الناس بتمشي مباريات الهلال ليس من أجل مشاهدة المباراة، ولكن من أجل مشاهدة أحمد المصطفى الذي كان يتابع مباريات الهلال.
الناس كانت بتدخل السينما ليس من أجل مشاهدة فاتن حمامة ولكن لكي تسمع حسن عطية وهو يغني قبل بداية الفيلم.
عبد الكريم الكابلي كان يمكن أن يحاضرك 3 ساعات عن (الخيل عركسن).
عبد العزيز محمد داؤود كان يمكن أن يقدم فاصلاً غنائياً وفاصلاً من الطرائف والنكات بنفس الجودة التي يغني بها.
إذا كان الفن في السودان وصل لهذا المستوى وأصبح هناك سِجَالٌ بين (القونات) كيف لا يتراجع السودان؟ ـ ونحن تقدمنا كان تقدماً فنياً.. نحن سِـرّنا كان في إبداعنا.
الحرب دي يا جماعة حرب ثقافية، حرب جعلتنا نتقوقع ثقافياً، وهذا كله من أجل تفتيت السودان وتمزيقه.
أوعكم تنظروا لهذه الحرب على أنها حرب أسلحة ودانات ومُسيّرات تضرب الكهرباء والمساجد والمواطن، دي حرب ضد هويتنا وثقافتنا وفننا وإبداعنا.
حرب ضد كل ما هو سوداني.
نحن فقدنا مقومات التقدم، فقدنا الأمن والإلفة والإحساس بالوطن.
فقدنا مقومات الحياة، الفرق بين العائش والما عائش بقى ما كبير.
إذا لم نواجه مشاكلنا، ما تنتظروا زول أو دولة تواجهها لينا.
الحل عندنا ـ مافي حل بجيكم من برّه ـ لأنهم كلهم مُستمتعون بما يحدث في السودان.
السودان صار عندهم نموذجاً لترهيب شعوبهم من الحرب، بقولوا ليهم شوفوا السودان بقى كيف؟

متاريس
لكن غصباً عن الجميع في ظل كل هذا الركام ـ قادرون نفرح ونضحك.
عندنا عشم نرجع تاني أقوى.
ثقتنا في الله كبيرة.
عندنا أمل نتعلّم.
أسألوا الله أن يفرحنا الهلال اليوم ـ نحنُ في حاجة لفرح جماعي.
شكراً لإدارة الهلال لأنها سوف تجعلنا نسمع صوت الرشيد بدوي عبيد اليوم في الاستديو التحليلي.
إن شاء الله صوت الرشيد اليوم يكون مُجرتقاً بفرح الانتصار والتأهُّل.
وهنالك سيف بركة في التعليق على المباراة والفاتح الريشة في التحليل الفني.. بالتوفيق إن شاء الله للهلال.
..
ترس أخير: الله معاكم.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد