صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد
أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)
ونحن طلبة، كان ختم معتمد الكلية في شهادة التخرج لا نعتز به إلا إذا كان حفل التخرج بالفنان أبوعركي البخيت ـ كان ذلك أمراً معتاداً عليه، أن يكون حفل التخرج بأبي عركي البخيت. تلبس قميصك الجديد، وتنثر عطرك الخاص وتترنم برائعة أبوعركي البخيت التي تحضر كل الفرح (ﺳﻬﺮﻧﺎ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﻛﻤﻠﻨﺎ ﻓﻰ ﻇﻼﻝ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﺍﻟﻨﻌﺴﺎﻧﺔ)، وفرحة أمك وأبيك أكبر من فرحتك وأنت خريج، تقيف في الثلاجة ما عشان تشرب، عشان أمك تفرح بيك، وإنت واقف قدامها.
أبوعركي البخيت كان مسجل الكلية الحقيقي ـ في حفله يلتقي الخريج مع زملائه الخريجين وأصحابه وأهله، وليس هنالك فرحة توازي أو تعادل فرحة الخريج الذي يكون أبوعركي البخيت دائماً فنانه المفضل.
مثلما كنا لا نحتفي بقسيمة الزواج إلا إذا كانت حفلة الزفاف بالفنان أبوعركي البخيت ـ كان ذلك عندنا قمة الرفاهية، لا يعتدل الفرح عندنا بدونه.
بخاف أسأل عليك الناس ـ هي حجر الأساس في أي قصة حب جديدة.. (بخاف) للشاعر حسن السر كانت تمثلنا وأبوعركي البخيت كان يزيد مخاوفنا كثيرا.. وقتها سر الريدة كان ممنوع البوح به ـ العشاق كانوا بذلك الأدب والحياء، كان الحب يمارس سراً، لا يجهرون به تأدباً وذوقاً.
الحب عندما يخرج من طور السر إلى طور العلن، يفقد نصف حلاوته. يخيل لي أن الحب شعور لا ينمو ويزدهر، أو لا يكون صادقاً وجميلاً وحلواً وعفيفاً إلا في السر.
الحب كان بهذا الرقي والأدب (أهم لو صدفة لاقيتك.. درب حلتنا جابك يوم). شوف الزول البشيل هم الصدفة وهم الدرب دا زول راقي وحساس ـ هذه الكائنات الراقية أعتقد أنها انقرضت الآن.
لقد ظللنا العمر كله نحمل هَمّ عدم مقابلة الحبيب، وهذا حسن السر يحمل هَمّ ملاقاة الحبيب (صدفة).
لكل فنان خاصية تميز بها ـ لوردي وعثمان حسين ومحمد الأمين ومصطفى سيد أحمد ومحمود عبد العزيز لكل خاصية أوصلته للقمة تختلف عن خاصية الفنان الآخر ـ أبوعركي البخيت خاصيته تتمثل في أنّه الفنان (الموقف)، فنان وصل للناس بعيداً عن وسائل الإعلام الرسمية والمعتادة.. فنان وصل للناس بأغنياته وبمواقفه.
أبوعركي البخيت فنان حاربته السلطات، حظرته في المنابر العامة ومنعته حتى عن الحفلات الخاصة، ولاحقته حتى وهو في بيته، مع ذلك وصل أبوعركي البخيت بصورة أسرع وأفضل للناس.
وصل أبوعركي البخيت بطريقته الخاصة، هو لم يجد دعماً أو مساعدة من وسيلة أخرى، حتى الإعلام الحر أو الإعلام المستقل كان يجد مشقة في التواصل مع فنان متواصل مع الناس بصورة تلقائية.
وكذلك وسائل الإعلام الحديثة على السوشيال ميديا لم يستغلها أبوعركي، لم يتاجر أبوعركي البخيت بمواققه، لم يظهرها، ولا توجد لجان إلكترونية كما تقوم للآخرين بذلك، هو فنان مع رسالته السامية لم ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي، ظل يقدم في الخفاء ما لا يعلم ولا يعرف ـ لقد كان أبوعركي البخيت بعيداً عن الإعلام، ليس بفنه فقط، بل بمواقفه أيضاً.
الذين يتاجرون بالمواقف إذا دعا منهم الفنان للتبرع أو خرج يدعو لحملة خيرية يفعل ذلك من أجل (الشو)، الفنان ليس مطلوباً منه أن يدعو، الفنان عليه أن يقدم القدوة والنموذج الحسن، لا أن يدعو لها فيظهر مثل الحملات الإعلانية مدفوعة الثمن والتي يقوم بها الفنانون في مصر وهم يدعون للتبرع للمستشفيات الخيرية وعلاج السرطانات والفشل الكلوي، والأيتام والمساكين.
أبوعركي البخيت جمع بين النقائض والأضداد، هو فنان جماهيري، فنان شعبي، رغم أنه غنى للنخبة والصفوة بكلمات رفيعة وألحان معقدة ومواقف كبيرة، لكنه وصل للبسطاء والعامة، كانت أغنيات أبوعركي تمثل لهم قوت يومهم، خبزهم ودواءهم وشاييهم وقهوتهم. هو عافيتهم ومزاجهم.
أبوعركي البخيت يمثل طليعة المثقفين والمستنيرين في المجتمع، في نفس الوقت هو يمثل عامة الناس ـ هذا جمع إبداع أو جمع أضداد يقوم به أبوعركي البخيت (قصراً).
أنا أصنف نفسي من المحظوظين في هذه الحياة، أو من أكثر الناس سعادةً، قادر على أن أعيش السعادة كيفما كان وليس كيفما أريد.
سعادتي وحظي ناتج من إني التقيت بشخصيات مدتنا بثاني أكسيد السعادة ـ كان القرب منهم في حد ذاتها يمنح الساعدة بصورة ممتدة لا تنقطع.
كثيرون هم الذين خرجت من عندهم، أقابل الناس بالبشريات، أنثر الفرح وأوزعه مثل طيور الجنة صباحات.
من أولئك الذين منحونا قبلة الحياة عندما أفقدها الفنان أبوعركي البخيت.
عندما تزوجت لم أجد في نفسي الجرأة لدعوة أبوعركي البخيت أو عزومته لعرسي، شعرت إني دون ذلك، وإني لو فعلت ذلك فإنني أدعوه بصورة مبطنة أو صريحة لكي يغني في حفلتي وأنا أعرف أن أبوعركي البخيت لن يتأخر، وقتها لم تكن علاقتي به قوية ـ لكن أبوعركي لا يغيب في مثل هذه المواقف حتى مع الذين لا يعرفهم بصورة جيدة. أتذكر أني بعد فترة من العرس أن وجدت أبوعركي البخيت بعربة قديمة وجلباب رمادي يطرق الباب، لا أعرف كيف وصل إليّ، وأنا كائن غير تلفوني، من الصعب التواصل معي عبر التلفون، جاءني أبوعركي البخيت وهو يحمل صور العرس في موبايله لا لكي يبارك فقط، وإنما كي يلومني على عدم دعوته وعزومته لعرسي ـ هذا الموقف لا أعرف كيف أصفه، إلا أنّني كلما أذكره امتلئ فرحاً وحبوراً.
من بعد ذلك، أذكر غضب أبوعركي البخت مني وانتفاضته يوم أن لاحقني وطاردني وعاتبني وهو زعلان لأنني استعملت مرة في إحدى كتاباتي كلمة خادشة ـ أبوعركي البخيت كان يرى أنني يجب أن لا استعمل مثل هذه الكلمة في مقال كنت أنتقد فيه السلطة التي كان يعارضها أبوعركي البخيت، من يومها أصبحت أعمل ألف حساب لكل كلمة أكتبها، خوفاً من أبوعركي، لأني أعلم أنه من بعيد يتابعني بحس الأستاذ والفنان، يصوِّبني ويعدلني عندما أخرج من النص، فقد كانت قمة طموحي قبل أن آتي للخرطوم وأحضر حفلة لأبي عركي البخيت، فكيف حالي إذا كان أبوعركي البخيت يقرأ ما يكتب ويتابعني، هذه حظوة تمنح كل السعادة.
أنا من مدرسة أؤمن بالالتزام الأخلاقي للمبدع ـ لا أعتقد أن هنالك إبداعاً دون سمو في الأخلاق ـ قد تكون للمبدع هفوات أو عثرات ككل الناس، لكن سمو أخلاقياته وشفافيته وجمال روحه ونقاء نفسه وتواضعه وحبه للخير ودعوته للسلام والحرية أمور لا بد منها عند كل المبدعين.
لاعب الكرة إذا كان فناناً بمعنى الكلمة لا يشدني سحره، إذا كان لاعباً بدون أخلاق.
لا أؤمن بفصل الأخلاق عن الإبداع، لأنني أعرف أن المبدع في المقام الأول هو صاحب رسالة وصاحب أخلاق رفيعة، إذا كنت بدون أخلاق، فإبداعك مكتسب بالخداع والنفاق والتملق، وهي أشياء في حقيقتها نقيضة للإبداع الحقيقي.
المبدعون والفلاسفة والمفكرون عند الإغريق ارتبطوا بالدعوة للفضيلة.
الدين (أخلاق) ليس كما يروجون له فقط في الشعارات واللافتات واللايفات والإعلانات المدفوعة الثمن.
الإبداع (أخلاق) ـ الفن (أخلاق)، ليس هو مجرد عدادات ولايكات وكومنتات.
لا أؤمن بمبدع يدعو للحرب أو الكبت أو الديكتاتورية.
أبوعركي البخيت فنان يغني ويكتب ويلحن، لا يضاهي في ذلك، فهو سلالة لوحده، يمسك المايك بطريقة ساحرة، يجر سلك المايك، بقبضة يده القوية، يتحرك في المسرح بصورة بديعة ويتمايل شمال ويمين ، كاريزماته حاضرة في أناقته، في انفعاله، ميله اللحني ونزوله ثم انتفاضته، كلماته التي يتغنى بها غير، ألحانه نسخة غير مكررة وغير موجودة، صوته سرب من العصافير الملونة والمختلفة يتخلل الحنايا كما تتنافس العصافير على الأغصان، حنجرته وطن ـ إنه فنان يحتفظ بشبابه كله في حنجرته ـ أبوعركي بذلك السر الإبداعي الدفين، هو فنان قبل ذلك في مواقفه وأخلاقه.
أبوعركي البخيت هو الفنان (الموقف)، لم يزاود ولم يتاجر ولم يجاهر حتى بها. دفع ثمن مواقفه بحرمانه من الغناء والتواصل مع جماهيره عبر المنابر العامة والرسمية.
إنه فنان وصل للناس سراً… فكان كل الجهر.
حاربوه فلم يتخلّ عن سماحته ولطفه، هو لا يغضب ولا يحزن، لذلك هو لا ينكسر، يدفع ثمن مواقفه وهو سعيد وراضٍ بما يقدم ـ أبوعركي البخيت يعرف أنه معني بأن يقدم لنا المواقف والقيم والمُثل، نحن لسنا في تعاقد فني فقط مع حنجرته ـ نحن في تعاقد حياتي مع مواقفه. لذلك فإن مواقف أبوعركي البخيت تطربنا كما تطربنا أغنياته.
في الحياة في هذا الزمن نادراً أن تجد مبدعاً يشبه مواقفه ـ يتوافق باطنه مع ظاهره وتتوحد خفاياه مع عوالمه.
أبوعركي البخيت فنان يفتح الباب بنفسه، يورق الملوخية ويفرك البامية، ويغسل العدة، ويرش الحوش، ويسقي الشجر، ويغني (بخاف).
هل السودان بكل هذا الجمال؟ ـ إنكم يمكن لكم أن تنهبونا ـ تشردونا، تقتلونا، تجوعنا، تبهدلونا، لكن لا تستطيعوا أن تفصلونا عن هذه الجذور.
نحن نرتكز على إرث وتاريخ لا توجد قوة في الأرض قادرة على إزالته أو محوه أو إبعادنا عنه.
نشعر أنكم أنتم الغرباء حتى وأنتم تتحدثون باسم الوطن وتدعون النضال والوطنية.
قادرون على أن نتحدى العالم كله بـ(أضحكي)، قادرون أن ندخل بها أي مجال وأن ننافس بها ونكسب. قادرون على أن نضحك رغم الألم والأوجاع، لأننا ندرك أننا سوف نبلغ أهدافنا يوماً (وإن طال السفر).
لن توقفنا الجراحات ولن نقف عند الذين باعوا أوطانهم ومواقفهم، لأن رصيدنا من الجمال والحب باقٍ (لو كنت ناكر للهوى زيك كنت غفرت ليك)، ما في حاجة بروح فيها وبفقد البطاقة والمفتاح وإضاءة الموبايل أكتر من (وبرضي ما قادر أسيبك لما أنساك بشتهيك).
في هذه الحرب، ابوعركي البخيت لم يدعُ لها ـ حاربها بمكوثه في بيته، تعرض للإرهاب وهُدِّد بالقتل، نُهب وسُرق وسُلب، لكنه ظل ثابتاً وباقياً في منزله ـ لم تزحزحه الدانات ولم تخرجه المُسيّرات.
انعكس صموده في شكله وفي لحيته وفي بدنه النحيل، لم يبدل العربة والموبايل كما فعل الذين تكسبوا من الحرب وظلوا يدعون لها، لأن السلطة تريد ذلك ولأن التوجيهات تنادي لها، متناسين عذابات المواطنين وأوجاعهم، كيف أدعو لحرب تُدمّر فيها المنشآت وتُهدم الكباري ومحطات الكهرباء والمياه والمستشفيات؟!
كيف أدعو لحرب وهنالك من ينتظر جرعة دواء كيميائية أو أنسولين للسكر أو حبوباً للضغط.
ومن عجب أن الذين يدعون للحرب زادت أرصدتهم وانتفخت أوداجهم وغازلتهم السلطات بالمناصب وما خفي كان أعظم.
نحن لنا في أبوعركي البخيت أسوةٌ حسنةٌ، سنظل ندعم المدرسة التي تقاتل من أجل المبادئ والقيم والمثل ـ الذين يعتقدون أو يظنون مجرد الظن أن الوطن أو الوطنية يمكن أن تكون بعيدة عن ذلك، واهمون أو هم مستفيدون من الوضع.
وطنيتنا في أخلاقنا وفي مثلنا وفي قيمنا، لا توجد وطنية في البل والخم والجغم والنم.
لا توجد وطنية في الدعوة لحرب، الخاسر الأول منها الوطن.
هذه الحرب لم تقم من أجل (كرسي)، ماذا يريد حميدتي أكثر من (الكرسي) الذي كان يشغله، لا أعتقد أن حميدتي كان يريد أعلى منه، لأن كرسيه قبل الحرب كان محمياً ودستورياً، وقد كانت السلطات كلها في يده بما في ذلك اللجان الأمنية والصحية والاقتصادية والسياسية أيضاً.
هذه الحرب لم تكن من أجل النهب والسلب، لأنهم قبل الحرب كانوا ينهبون ويسلبون بالقانون ويتبادلون الأدوار.
الذي كان يسرق في الظلام والخفاء، من الأفضل له أن يواصل في سرقته بعيداً عن أعين الناس والإعلام، ويظهر أمام الناس كبطل، لا يوجد هنالك لصٌ يفضل أن يمارس مهنته في العلن، وجهراً بين الناس.
هذه الحرب ما هي إلا لطمس هويتنا ولتفريقنا وفصلنا وإفقادنا لسوداننا الذي نريد.
هي حرب ضد الوطن وضد الهوية، الخاسر الأول منها المواطن.
هي حرب ضد المُثل والقيم والمبادئ والأخلاق.
لذلك الانتصار الأول في هذه الحرب يتجسّد ويتمثل في إيقافها ـ صدقوني هؤلاء وهؤلاء لا يعنيهم النصر أو الهزيمة كثيراً، هي أشياءٌ متبادلة بين الطرفين في هذه الحرب.
حتى الانسحابات ظللنا نسمع بها عند الطرفين أنها (تكتيكات) عندما تقع الهزيمة.
مليشيات الدعم السريع يعنيها من هذه الحرب تفريقنا وفصلنا وإشاعة الفوضى والظلام والنهب والسلب لتصبح هذه التجاوزات سلوكاً عاماً.
إنهم لم يقصدوا غير طمس السودان.
ولكي ننتصر في هذه الحرب، اعلموا أن النصر فيها لن يكون عند طريق البندقية التي سوف تزيد أمد الحرب. الانتصار في هذه الحرب سوف يكون بالفن والأدب والثقافة.
الانتصار سوف يكون بوردي وعثمان حسين وابراهيم موسى أبا والنعام آدم وصديق أحمد وعبد القادر سالم.
الانتصار سوف يكون بالهلال والمريخ وعلي المك وصلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر.
انتصارنا سوف يكون بالعودة إلى برعي محمد دفع الله وبشير عباس ومحمدية وموسى محمد إبراهيم.