صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

حرب الخرطوم

339

حرب الخرطوم
د. قاسم نسيم
شرف الكتابة عن حرب الخرطوم شرفٌ لا يفوتنَّ كلَّ صاحب صنعة يراع، وهم قد فعلوا إلا من تحيد، حيث لا حيدة ولا حياد، فالمواقف الكبرى لا انغماس عنها في أكوام الرمال اتقاء قول الحق، ولا يُنجيك تشاغلًا وتساهيًا، فللكلمة حدُّ ما يزال يطَّعِنُك حتى تُخرجها، أو تخرج تتفجر تشظيًا برغمك.
وحرب الخرطوم ليس لها توأم في تاريخها، ولعلها تكون يتيمة في مستقبلها – دمويةً وفظاعةً وتدميرًا وقسوةً وانتهاكًا، ثُمَّ يتقدم كل هذا أنَّها محاولة احتلال واستيطان جادة، أتت بمستوطنيها، وبرز قرنُها منذ سنين مضت، حين بدأت جذوتها تستعر في دارفور والناس عنها عُميٍ ومكذبون.
وما استعصى عليَّ فهم شيء كاستعصاء فهم مقولة (لا للحرب) وأختها (حرب عبثية)، تلك التي ينصبها بعضهم، فكيف أفهمها وغازٍ يود أن يحتل أرضي غصبا، ويبني دولته على أنقاضها غُلبا، بحشده الجرار من غرب إفريقيا، وهذا معلنٌ مشاهدٌ في الميديا، مجربٌ في دارفور، أأناجزه قتالًا، أم أدعوه إلى التفاهم والحوار، أغازٍ يدافع أم يحاور! وعلامَ يحاور أعلى اقتسام أرضي معه، والرضي بانقسام تراث غُنمها، وهتك عرض نسائها! هذا خورٌ وجبنٌ ودياثةٌ استحيت لدعاته وشفقت.
نعم ثَمَة مظالم ما فتئت تلزم الدولة السودانية منذ استقلالها كما لزم اللحا الشجر، وثمة تنكب عن منهاج رشد الحكم أورثنا هذه الحال، لكن من يتخذ هذه الأسباب مطيةً للغزو فما أنصف الله مظلمته! فقد فرَّ من هجير الشمس إلى لظى جهنم، بل أبعد مثلًا من هذا، ما نجد له ضريب.
لكن يا للعجب فالغازي كان يقاتل حركاتٍ نهضت ضد تلكم المظالم بسيف الدولة وترسها، في دارفور وجبال النوبة، فكيف غدا اليوم هاتفًا ومطالبًا بها، ويتقعَّر لسانه بخطاب المظلوميات!ويا للعجب، فمناصروه أكثرهم من زمرة الأحزاب التاريخية صانعة تلك المظالم، وكانت الهوامش تنتفض عليها؛ فكيف صاروا الآن مقاتلين من أجل رفعها، ويا للعجب ينعى على دولة 1956 ومناصروه من آساسها وبهاليلها، هذا عبطٌ وتزييف وتغبيش للوعي لا ينطلي إلا على غرير، أو عارف لكن له وراء تبعيته لهم غُنم يتحراه، فالسياسة غدت أوسع باب للثراء، ونقول إنَّ من شايع الغزاة برئت منه نسمة الوطن، ولزمته آثام الخيانة، خيانة لا طهر بعدها ولا فدية ولا كفارة، كحكم الساحر فلا استتابة له. هؤلاء الساسة بلتهم هذه المحنة فأبانت أنهم عن ريادة هذه الأمة غير جديرين، إنما اعتبطهم الزمان في إبطه كما اعتبط ثابت بن جابر سيفه، ثم رماهم في غير مكانهم الذي يستحقون، فتسيدونا.
أتراك سمعت مقالات محررينا –المزعومين- تنضح بها الوسائط، أسمعت أنهم يريدونها خالصة لأرومتهم التي تتفرع منها جماجمهم، فنرتد من جمهورية إلى مشيخية، أتراك سمعتهم ينعتوننا بالعبودية كلنا فيها شركة إذن هم أتوا لاستعبادنا لا لتحريرنا، أبهؤلاء تقام دولة، دعك أن تأتي منهم ديمقراطية، فلم تغسل سيوفهم من دماء أهل دارفور بعد؛ لتنغمس في أهل الخرطوم تارة أخرى، دارفور التي كان أكثرنا ينكر مأساتها، فأذاقها الله لنا جذعة، سواءً بسواء، قتلًا، وسرقةً، وحرقًا، واغتصابًا، واستيطانًا، فإدكر أكثرنا الآن وصار يسمع تلك الأصوات التي كانت تهمس في آذاننا ونحن عنها صادون، أأقول لمن يفعل هذا الآن في داري ومالي وأهلي وعرضي لا للحرب، وآخرون ممن يعتقد أنَّ الديمقراطية تأتي طافية على هذه الدماء، مستترة بين أضلع المسروقات، ترتوي بدم بكارات العذارى، أي جنون هذا يصدقه مجنون، قبحًا لها إذن من ديمقراطية أيتمها الله وأوترها.
كان قد قرَّ رأيي ألا مناص إلا تحكيم السيف، واشتراع الرماح لدحر هذه المليشيا من بعد الثورة مباشرة، فتمضي السنون وهي تتربص الانقضاض على الدولة وطنًا لشيعتها المهاجرة، ومُلكًا لأميرها، الذي لا يلوي على هدف غير هذا، ولات فرجة تفاوض، فماذا تراك تفعل غير المقاتلة جبرًا وكرهًا، وعزيمةً وقدرًا، لا تجد أن تفرَّ منه.
ويقولون الجيش بادأ، هذه حجتهم فما أوهاها، نقول إنَّه من العجز ألا يبادئ، ونحسبها على الجيش أنه قد تأخر كثيرًا، ومكَّن لهم حتى شقَّ دحرهم، ولو أنه بادأ لسلمت الخرطوم، وسلم الناس، وحُفظت الأموال وعفت النساء، فإن بادأ الجيش فتلك فضيلة يباهي بها.
إن ملحمة تحرير الخرطوم، ملحمة اختلطت فيها دماء شباب السودان تهرق دفاعًا عنها ، فلا نقبل بعد هذا من يدعو لعصبية أو علو فئة على تلك، أو انعات بعضنا لبعض بنعوت سالبة، وعلى الجمهورية التالية أن تبدأ بالنص على تجريم من ينعت أو يسب قبيلة أو جهة، وإن جرم المليشيا تبوء به المليشياء وأفرادها، لا قبيلة أو جهة، وإلا فإننا لم نتعلم من هذا الدرس شيئًا.
كلُّ شعب السودان هبَّ دفاعًا عن وطنه مع جيشه، منهم من سبق، ومنهم من لحق بعد انكشاف التزييف، وكانت الحركة الشعبية قد وقفت طويلًا تلتزم بوقف إطلاق النار، ولا تنتهز فرصة افراغ جنوب كردفان من جيشها ومقاتليها الذين نفروا للزود عن الخرطوم، ثُمَّ أنَّها متأخرًا والحرب تمضي لطي نفسها تحركت نحو حاميات الجيش احتلالًا فوقع صدامٌ بينهما، وقد زعم بعض مؤيديها إن هذا التحرك إنما هو مخافة أن ينطبق على مدن جنوب كردفان ما انطبق على مدينة الجنينة من استباحة وإنزاح من قبل المليشيا، خاصة أن المليشيا اجتاحت الدبيبات وطيبة القريبتين، لكن الحركة لاذت بالصمت ولم تؤكد صحة المزاعم من خطئها، ثُمَّ أنها سرعان ما تراجعت عن مقاتلة الجيش وهادنت، وقد أرجع بعضهم ذلك إلى ضغط من كبار الضباط على القيادة، وقد ذهبت تحليلات أخرى إلى رضوخ الحركة إلى إرادة شعب النوبة المؤيد للجيش، المناوئ للدعم السريع، ومسيرتهم تلك بتاريخ 9/ 11/ 2022 ضد الدعم السريع التي وصلت للقصر الجمهوري وقت ما كان يجرؤ شخص أو كيان أو دولة على مجرد النظر إلى الدعم السريع خير شاهد على ذلك، ولم يطوها النسيان بعد، ويرتجح عندي هذا الزعم، ويحمد للحركة موقفها اللاحق هذا، فالارعواء إلى الحق فضيلة، فالجيش السوداني إنما تأسست نواته مع قدوم محمد علي باشا قبل مئتي عام ليؤسس جيشه من أبناء النوبة، كان هذا الغرض من أهم دوافعه لغزو السودان، وكان له ما أراد، وظلت الجهادية السود من ذاك الزمان مرورًا بالمهدية ثم الحكم الثنائي الذي أتى بمن انسحب منهم إلى مصر في رفقته، وهكذا ظل ارتباط النوبة بالجيش السوداني، فالجندية مهنتهم الأولى لا يتزاحمون عليها، فمن الطبيعي إذن وقفتهم الحالية في صف جيشهم.
إن قضايا السودان واضحة بَلِجة، يكمن حلها في العدالة والتسوية، وثوب ثقافي كجبة الدرويش، له من كل لون رقعة يمضي وتتماهى ألوانه مع الزمان هونًا، لا بإرادة سلطان، وسوار يحيطنا منسوجٌ من عروقنا يسمى السودانوية، لم نجتلبها اغترابًا، ونفرضها عسفًا ، إنما هي إنعكاسٌ لصورتنا ومحيانا وضحكتنا وأحزننا وحكاوينا، والأبواب مشرعة لكل صاحب بدعة أو سنة يعرضها رضىً، على ألا توقظ عصبية، أو تحتقر فكرًا، وأن يُوسَّد الأمر لأصحابه، علمًا وخبرة ومعرفة، لا لصعاليك السياسة المفتقرين للوطنية والفهم والرشاد. والسياسة تقوم على الاختلاف، كلٌ يعرض بضاعته في حب الوطن، فنريده اختلافًا مبرأً من خيانة، نتناجز كسودانيين دون انتصار بأجنبي، وإهراق لدم.فالسودان قد اجتاله الخراب، هذا حكم واقع، لكن كيف نفيد من هذا الدرس القاسي، هذا هو الرهان..!!

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد