صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

عدت سنين وناسك ما اتغيروا يا حوتة !

321

تداعيات
إيهاب صالح
عدت سنين وناسك ما اتغيروا يا حوتة !

* مطلع التسعينات أهداني أحد الاصدقاء شريط كاسيت ، مشدداً علي اعادته في اليوم التالي بلا تأخير فقلت له ساخراً يعني حيكون بغني فيه منو ؟ فقال لي انت اسمعه بس ، أخذت الكاسيت في فترة كنا نعشق استماع مسجلات الاستريو الباناسونيك وكل واحد يقتني هيدفون سماعات لمشاوير السفر او حالات انقطاع الكهرباء ، قمت بتشغيل الكاسيت وسمعت اروع صوت شبابي يترنم ويتغنى برائعة محمد احمد عوض ( فاكرك معاي ) وهو تسجيل حفل ، تملكتني دهشة عظيمة من هذا العجيب الذي يخترق صوته غياهب القلب مباشرة وترعيه سمعك وكل احساسك ويتفجر ابداعاً وروعةً مع كل كلمة يغنيها وكل آهات يطلقها من حنجرته الذهبية الاستثنائية ، لا ادري كم مرة استمعت للشريط بوجهيه ولا ادري الوقت الذي سهرته ولا تبتعد سماعات جهاز الكاسيت عن اذني ، ولكنني ادري كيف تحولت كل شرائط الكاسيت بعده عندي الى هذا المطرب الشاب الذي لغى الكل وتحكر وحيداً ، وبالطبع لم اقم باعادة الشريط الا بعد ان نسخته ومن ثم كانت رحلتي مع محمود عبد العزيز اجمل وافضل من تغنى للشباب في السودان بلا منازع ولا شريك .
* محمود عبد العزيز المعطون بكل الجمال والابداع ، رقيق المشاعر كما الجسد عميق الاحاسيس كما الحزن ، تراه تعرف فوراً ان هذا الانسان يتقطع الماً ويمنحك سعادةً غامرة ، محمود كان ينقصه شيئاً ما لم يفهمه أحد ، عاش حياة لا يمكن ان تسردها في قصة واحدة ، انهمرت اغلب جوانبه الرائعة وخيراته الدافقة بعد رحيله بينما كانت الصورة القاتمة في حياته تسير جنباً الى جنب مع ابداعاته وما يقدمه لجمهوره العريض الذي يتحدى حتى جماهير الاندية الكبيرة في بلادي ، فالحواتة استفتاء شعبي لم يحركه حشد ولم يجمعه نداء ولم تناديه دعوة ، الحواتة شعب نشأ في كل مكان وصلته زفرات الحوت وترنيماته ، عشقوه حتى الثمالة ، حتى ان كلمات محمود المقتضبة التي يلقيها قبل الحفل تعد عندهم اروع من الاغاني ذاتها ،الحواتة كانوا ولا زالوا وسيظلوا عشقهم الوحيد هو الحوت والصوت الوحيد الذي يمتعهم ويطربهم هو صوته ولا بديل لذلك فمنتوج الجان يكفيهم وتسجيلاته التي كثرت بكثرة اطلالاته والتوثيق له تغرقهم ولا تمنحهم وقتاً للبدلاء حيث لا يمكنهم قبول بديل له ، كنا نتواجد ويغيب محمود ولا يغضب الجمهور ، كنا نتواجد ويتواجد في الحفل اكثر من فنان فينصحونهم بالغناء اولاً وتاخير محمود للنهاية لأن محمود ان شدا ابتداءاً لن يواصل الجمهور الحفل بعد انتهاء فاصله ، كنا نتواجد وجمهور محمود ينتظر بالعشرات ليلاً امام محلات شركات الانتاج في انتظار قدوم الكاسيت الجديد ويقومون بشرائه من الكراتين قبل ان يتم وضعه على الارفف فتنفد الكمية قبل ان تدخل المحل ، و حيث كان المخرج شكر الله خلف الله سنوياً ينفرد بأجمل برامج العيد في يومه بالقناة الفضائية بسبب سهرة محمود عبد العزيز ، وحتى بعد تعدد القنوات كان محمود الايقونة الرئيسية هنا وهناك ، والمطلوب بشدة ، وعلى نطاق الكاسيت تبارت شركات الانتاج الفني عليه عقوداً واتفاقاً واحتكاراً وعرفوا غنى المال من غناه ، وكان محمود يجاهد من اجل جمهوره ولم يكن يهمه مال ولا عز بل كان يعشق الجلوس ارضاً وهو يسعد الملايين التي رايناها تحتل كل طوابق قصر الشباب والاطفال وكل جنبات قاعة الصداقة وكازينو النيل الازرق والمكتبة القبطية ومسرح الاهلية وغيرها .
* محمود عبد العزيز الذي كان يعشق النجمة ويشجع المريخ صراحةً ولا يخفي انتماءه خوفاً من تراجع شعبيته او اغضاب الاخوة الاشقاء في الهلال ، لكن محمود كان يعتبر تشجيع المريخ من اساسيات حياته وعشق الكيان الاحمر يجري في دمه فكان يبدو الاكثر سعادةً عندما يتغنى بالعجب حبيبي ويسعد الجماهير في مدرجات الاستاد كما كان يسعدها فيصل العجب من داخل الملعب فالثنائي يجمعهما الفن الكروي والفن الغنائي ويجمعهما المريخ الاحمر الوهاج ، وشعبية محمود لم تكن لتقف على شمال السودان ووسطه وغربه بل كان الاخوة الجنوبيين يعشقون محمود ويعتبرونه الاول في السودان ولم يتأخر عنهم عندما زارهم بمعية شقيقه مامون عبد العزيز وتسجيل سهرة من جوبا كانت حدث الساعة وقتها ، بالطبع لا نغفل ان الجنوبيين يحبون ايضاً النور الجيلاني وبالطبع هو ايضاً مريخابي مشجعاً للاحمر ايضاً فالمريخ ينبوع الابداع والمبدعين .
* محمود تغنى للكبار ، تمعنوا في رائعة احمد المصطفى ( الدنيا تحلى ) بالطريقة التي أداها بها الجان ، توجد بها آهة ينطقها محمود تقسم انك لم تسمعها باذنك وانما بكل كيانك ، تمعنوا في رائعة الطيب عبد الله ( السنين ) او ( فاكرك معايا ) او ( الحزن النبيل ) و( ليه بنهرب من مصيرنا ) واتكاءة على جمال ( بخاف ) عندما غناها بالمانيا وزلزل المكان بصوته الرخيم ، اما عن البوم ( سكت الرباب ) فما علي الا السكوت وقراءة ما كتبه الموسيقار عثمان النو عن مشاركة الروس في العزف للحوت ذلك الالبوم الذي يعتبر بمثابة كاس خارجي احرزه محمود للبلد وبقي شاهداً على العصر والابداع وكأنه ( جواب للبلد ) .

آخر التداعيات

* عشر سنوات مرت على الرحيل المر ، رحم الله المدهش الانسان محمود عبد العزيز ، ورحم الله الاخ العازف محمد بشير واسكنهما فسيح جناته وإنا لله إنا إليه راجعون .

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد