صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

غبَـاء (الذكاء الاصطناعي)

54

صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد

غبَـاء (الذكاء الاصطناعي)

سألت (الذكاء الاصطناعي) أو التطبيق أو النافذة التي تحمل هذا العنوان على الشبكة العنكبوتية عن أغنية صلاح بن البادية (صدفة)، بعد أن أدرجت في محرك البحث مقطعاً عنها فكانت إجابة (الذكاء الاصطناعي) على هذا النحو حرفياً: (صدفة جميلة قابلتو الليلة هي بداية أغنية شهيرة، غالبًا ما يتم البحث عنها كجزء من أغني “صدفة جميلة لقيتو الليلة” لحمو إسماعيل. الأغنية تتحدث عن لقاء غير متوقع، وهي عبارة عن لقاء صدفة جميلة في ليلة.. نوع الأغنية: هي أغنية شعبية مصرية، وهي من غناء المطرب الشعبي حمو إسماعيل.. الموضوع: الأغنية تتحدث عن صدفة جميلة التقت بشخص ما في ليلة معينة، ويستعرض المطرب تفاصيل هذا اللقاء ومدى سعادته به.. كلمات أخرى: تتضمن الأغنية كلمات أخرى مثل “حبيبي حبه الوجدان” و”عشان تشوف دنيا جميلة”.….).
عملوا اغنية (صدفة) أغنية مصرية شعبية، يعنى ما بعيد نلقاها في المتحف المصري الكبير.. الناس ديل عاوزين يورثونا على الحياة.
وما بعيد إسماعيل الأزهري يطلع أحد أعضاء حزب الوفد المصري.
ضغطت على رابط الأغنية فقد يكون الذكاء الاصطناعي يتحدث عن اغنية أخرى وما أكثر تشابه الأغنيات، لكن عندما شاهدت الأغنية وجدتهم يقصدون اغنية صلاح بن البادية (صدفة) ذاتها التي لا تغبي عليّ ـ بالكلمات واللحن، ولكن بأداء (حمو) المصري.
نعم الذكاء الاصطناعي يتحدث عن اغنية سودانية تغنى بها صلاح بن البادية وكتب كلماتها محمد يوسف موسى ويقول عنها إنها اغنية (شهيرة)، وينسبها الى مطرب نوبي عبارة عن مردد، يقدم أغنيات سودانية بالاورغن، ولا يحفظ حتى كلمات الاغنية بشكل صحيح فهو بتمها (موسيقى)، ويجهل (الذكاء الاصطناعي) فناناً بقيمة صلاح بن البادية، ظل يغني ويقدم الروائع ويلحن بعض أغنياته بنفسه على مدى خمسين عاماً، ثم يأتي (الذكاء الاصطناعي)، فينسب الأغنية إلى مردد، لم يجتهد في الأغنية ولم يحفظ كلماتها كما ينبغي ولا يقدمها بصورة حسنة، فهو يحشد فيها صخب الموسيقى، ويتغنى بها بالاورغن، ويتكسّب بها في حفلاته الخاصة، وصاحب الأغنية لا ينسب له عمله الذي قدمه حتى من تطبيق أو برنامج يدعي العلمية والمعرفة، يسمى (الذكاء الاصطناعي) يشاع عنه انه صار بديلاً للإنسان في كثير من الوظائف وانه سوف يجعل الإنسان عبارة عن مستهلك أو متلق فقط، ونحن كدولة ثالثة لا حول لنا ولا قوة، لا نملك قدرة تكنولوجية أو تقنية للتصدي لمثل هذه الترهات التي تسلبنا ثقافتنا وهويتنا.
الذكاء الاصطناعى دا جنّ؟
لم يعطوا صلاح بن الباديه حقه (المادي)، فحرموه حتى من الحق (الأدبي).
دي مصيبة شنو الوقعنا فيها دي؟
ان الشفشفة الحقيقية هي ما يحدث في سلبنا لثقافتنا وفي نهب تراثنا، انهم يسرقون حتى اغنياتنا التي نرددها، يسرقون قيمنا وادبنا وتقاليدنا فهل ندرك ذلك؟ يسرقون ذاكرتنا، واجندتنا العاطفية.
إن الذكاء الاصطناعي وهو يدعي العلم وينشر المعرفة قام بشفشفة هي أسوأ من شفشفة البيوت، أسوأ من شفشفة الجنجويد، لأنه يروج لمعلومات غير صحيحة، وهو عند الجميع مصدر ثقة.
لا أعرف ما هو الإجراء في مثل هذه السرقة العلمية التي تتخذ التكنولوجيا والتقنية وسيلة لها، في مثل هذه السرقات (الإلكترونية) لا بد أن يكون هنالك رد وتصحيح، وأن يكون للحكومة موقف إنّ كانت لها من المواقف نصيب، ففي النهاية كل هذه الأمور تحت إدارة البشر، والذكاء الاصطناعي هو عبارة عن تراكم معلومات يقوم الإنسان بتغذيتها، ثم يضعونا أمام الأمر الواقع على أساس أنّ هذا هو الذكاء الاصطناعي وأنهم بريئون مما يفعل، كما يجب علينا نحن كأفراد أن نصحح المعلومة ونرفض ذلك ونُوقف الذكاء الاصطناعي عند حدّه بمعلومات صحيحة، فإن سمحنا لهم، سوف تعتقد الأجيال القادمة أن أغنيات البلابل، أغنيات إثيوبية، وأن أغاني خوجلي عثمان (نوبية) لنوبة مصر، قبل سنوات قدمت فضائية مصرية شهيرة أغنية إسحاق الحلنقي (اسمعنا مرة) التي يتغنى بها خوجلي عثمان، على أنها أغنية من التراث النوبي، لم يكتفوا بنسبها للنوبيين، وإنما أصّلوها أكثر فجعلوها من تراثهم النوبي، اذكر أن الزميل طلال مدثر ناقش هذه القضية الخطيرة، وعرض لذلك النهب الثقافي في برنامج (المحطة الوسطى) بقناة الشروق ـ المشكلة أن السرقات الأدبية والثقافية والفنية يقوم بها (الذكاء الاصطناعي) فمن نحاسب ومن نسأل وكيف نرد حقنا في هذه الشفشفة (الإلكترونية)؟
الموضوع أكبر من مسيرة وكوبري شمبات ـ الموضوع أكبر مما نتصور.
الأكيد أن الشبكة العنكبوتية تحتفظ بمعلومات وقصص وتسجيلات للأغنية بصوت صلاح بن البادية وفنانين سودانيين آخرين، وهنالك كتابات كثيرة عن هذه الأغنية التي تنسبها للسودان ولمحمد يوسف موسى وصلاح بن البادية، لكن الذكاء الاصطناغي بغباء مستحكم يرد الأغنية لفنان يرددها في حفلاته الخاصة، يفعل ذلك حتى بدون تسجيل رسمي للأغنية أو بتفويض بالسماح بالتغني بها.. وهنا توضح خطورة صراع الثقافات، لأن الثقافة التي تملك إعلاماً ووسائط ناقلة تكسب حتى وإن كانت هي الأضعف، بل يمكن أن تتعدى على ثقافات الغير، وتتفوق على الثقافة الأصل.
هذا زمن التقليد فيه أصبح أكثر رواجاً من الأصل.
إذا استمرت هذه الحرب فسوف يعتقد القادمون من الأجيال الجديدة حتى السودانية منهم، أن محمد وردي فنان صومالي وأن عثمان حسين فنان أردني وأن الهلال فريق موريتاني وأن المريخ فريق رواندي، وقد نمضي أبعد ذلك فيصير النيل الأزرق (مصرياً)، نشاهده في مسلسلاتهم، والنيل الأبيض نيل (جنوب سودانياً)، وربما نستيقظ الصباح فنجد قاعة الصداقة في طرابلس وكوبري شمبات في تشاد، والتاكا في كينيا والبحر الأحمر في تركيا والقاش في الصين، والبركل في كندا ، وإهرامات البجراوية في المانيا، ونهر عطبرة في ماليزيا، والعِمّة والجلابية هي الزي القومي للهنود.
إنها الحرب، فلا تنتظروا أخباراً سعيدة، فليس في الحرب ما يسعد.
لمعلومية الذكاء الاصطناعي أو لبلطجته الإلكترونية وشفشفتها الثقافية، أغنية (صدفة) التي نسبها الذكاء الاصطناعي لحمو إسماعيل باعتبارها تراثاً نوبياً، هي أغنية سودانية معاصرة أي (حديثة)، وهي أول عمل تغنى به صلاح بن البادية للشاعر محمد يوسف موسى، وشكّلت (صدفة) بداية التعاون بين صلاح ويوسف ليشكلا أحد أروع الثنائيات الغنائية في السودان، ليقدم ابن البادية بعد ذلك أكثر من (17) عملاً لمحمد يوسف موسى، ويمد مكتبة الغناء السوداني بكلمة وحسنك أمر وفات الأوان، وغيرها من الدرر الفريدة.
أذكر في احد نهارات أم درمان الحافلة، أن دخلت برفقة الزميل الراحل محمد شريف مزمل، الصحفي الذي رحل فجأةً، لنبقى عالقين في حزن لا ينتهي من صدمة رحيله، فمن يرحل فجأة يبقى حزنه أبد الدهر، برفقة الراحل محمد رحمة الله عليه دخلنا لبيت شاعر (كلمتي المست غرورك وفرقتنا)، علاقتنا الشخصية مع محمد يوسف موسى رحمة الله عليه بدأت من مجلس الخرطوم التشريعي، كنا صحفيين صغاراً نتنقل بين صفحات الفنون والمنوعات بفرح، وكان يوسف بكل بريقه يهب مهللاً عندما نلقاه، من عادته أن يستقبل الزائزين له على باب مكتبه ثم يُودِّعهم وهو خارجٌ معهم.
يكرمنا بنفسه ـ نشرب في مكتبه عصير (زبادي)، لم نكن وقتها نعرف ذلك الخليط من العصير، فحسبنا أن ذلك من خواص (كلمة)، لذلك كنا نشرب العصير ولا كلمة.
كان محمد يوسف أنيقاً يلبس البدل السفاري فيبدو كأنه يترافع ضد (فات الأوان).
محمد يوسف موسى اشتهر بثنائيته مع صلاح بن البادية صاحب الصوت (الرطب)، لكن يغفل كثيرون إشراقاته الفريدة مع فنانين آخرين غنوا له فكانت أغنياته أجمل ما تغنوا به.
سلطان الطرب سيد خليفة غنى له (يا صوتها لما سرى).. وقيل إنّ الأغنية كتبت في ليلى المغربي عندما كان صوتها يخرج من أسير أم درمان.. وعندما سألنا محمد يوسف عن ذلك لم ينكر وهو دائماً يرفض الحديث عن قصص أغنياته ومناسباتها.
عثمان حسين غنى له اغنية (الدرب الأخضر)، وأغنية (تسابيح) وهي الأغنية الوحيدة التي تغنى بها عثمان حسين ولم تكن من ألحانه، فقد لحّنها عبد اللطيف خضر (ود الحاوي).
ثنائي الجزيرة غنوا له أروع اغنياتهم (حل علينا وأنعم لما غشانا سلم) وهي الأغنية التي تُعرف باسم (لوعة).
ثنائي النغم غنن له (يا اول حبيب من دون الأحبة اظهر لي غرامه وبادلني الأحبة).
وتبادل وردي وزيدان إبراهيم (العذاب) في اغنياته فغنى له الأول (عذبني وزيد عذابي يمكن قلبي يقسي) وغنى له الثاني (لا هماك عذابنا).
تشعر أن أي أغنيات محمد يوسف موسى عند أي فنان بمثابة الشامة في الخد، أو العقد في جيد الحسناء.
لكن كل هذه الروائع تسلب وتسرق وتنسب لآخرين، وهذا هو حال السودان يباع سمسمه وتبلديه وصمغه وفوله السوداني بديباجات دول أخرى عند التصدير، وحتى الذهب والماشية ينكرون عليها سودانيتها في الخارج، ونحن الآن مع تعدٍّ آخر على ثقافتنا واغنياتنا وتراثنا.
كتب عبد الوهاب هلاوي الشاعر المعروف على صفحته في الفيس بوك:(ضحكت وأنا أجلس على ظهر تُكتك أو (ركشة) بالسوداني وهي تحملني في شارع من شوارع أسوان الجميلة والحبيبة إلى نفس كل سوداني وسائق التُّكتك الذي لا يتعدى عمره العشرين عاماً تنبعث من جهاز تسجيله أغنية من كلماتي. سألته في براءة بالمصرية التي صرنا لا نتعمدها مين البغني ده يا ابني؟ فأجابني في سعادة ـ ده عمو السلطان حمو. فابتسمت.. أكثر من أمر عادي أن تلتقط أذنك عشرات الأغنيات من بلدك ولمختلف الشعراء والملحنين والمغنين، وانت لا تملك إلا أن تكون سعيداً، تحمد الله أنّ أغنيات بلادك قد غزت العالم بغض النظر، ومن بمقدوره أن يقف في طريق أغنية وهي تعبر الجو والمسافات، تحمل رسالتها وتحلق بلا طيار. عدد كبير من أغنياتي تتجول في شوارع أسوان بلا بطاقة إقامة سارية المفعول، أو جواز، ولا تخشى أن تتعرض لمساءلة قانونية. النور الجيلاني حاضر بعدد من الأغنيات ولي فيها (دبلة شنو)، عبد العظيم حركة حاضر ولي منه (انت رجع لي رسايلي)، الحوت حاضر في (ابتسامة حبيبي تكفي)، الهادي الجبل (وكلماتك لسه صداها جميل، ودمعاتك لسه على المنديل). الكل هنا حاضر حتى (يا الحبك كده فات)، كلها تتحرك هنا حيث شاءت وبلا استئذان أو جواز، أكثر ما يحزنني ويعز عليّ انهم هنا لا يعرفون أن هناك مدينة اسمها كسلا تبعد حوالي 480 كيلو متراً من الخرطوم شرق البلاد.. وان هناك جبالاً اسمها التاكا، ونهراً اسمه القاش، وأن هناك حيّاً اسمه الميرغنية فيه عشقت كما عشقت الترعة، الجسر والختمية وغيرها، وأن هناك بعض الصبايا الجميلات كن ملهمات لتلك الأغنيات في عهد قديم، وقبل أن تأكلني السنين وتلحسني الحرب الآن. لأتحول الآن إلى كائن غريب يقبع داخل تكتك في براءة الأطفال وبيسأل ده منو با ابني البغني ده؟
فيجيبك صوتك وسط ضجة الموسيقى العالية: مالك فجأة كدة بقيت نساي).
ونقول لهلاوي الذي كتب لمصطفى سيد أحمد (لو مني مستنى الملام يا سلام عليك يا سلام) نقبل هذا الجهل من سائق تكتك، صغير السن وثقافته محدودة لكن لا نقبل ذلك الجهل والتعدي من (الذكاء الاصطناعي).

متاريس
اللهم احفظ السودان.. أحفظ أرضه وشعبه وثرواته وثقافاته وتراثه وقيمه وتقاليده.
اللهم أحفظ سلمنا الاجتماعي، وابقى على صفاء الروح فينا، وثبت وحدتنا، واجعلنا الأعلون بين الأمم.
اللهم انهي هذه الحرب، واجعل (السلام) يرفرف في كل ربوع البلاد ليزيدنا قوة ووحدة وسماحة.
اللهم انصرنا على كل من يريد بنا ضراِ وهو يظهر خلاف ذلك، وكل من يسوقنا إلى الهلاك والدمار لمصالح خاصة به وأهداف تخصه وحده.
سوف نبقى ونظل ـ غير قابلين للانكسار أو اليأس.

ترس أخير: وسنغني لك يا وطني مثلما غنى الخليل.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد