لم يثر استغرابي أو يحرك مكامن دهشتي، ذلك العدد المهول من الرجال الذين يتحلقون حول مواقد الجمر في طرقات الخرطوم التي يقال عنها أنها عاصمتنا الحضارية.
تغيب الدهشة ويتوارى الاستغراب عند من يعرفون حجم الفراغ الذي تصنعه الحياة السودانية الكئيبة.. ما عليك إلا أن تصحو في الصباح الباكر ثم تقصد مكتبك الخاص لتقضي مصالحك لكي تفيد وتستفيد وتعول نفسك واسرتك.. فتصدم بانقطاع التيار الكهربائي وتمنعه الرسمي حتى ساعة رجوعك إلى البيت.. لن تجد فكاكا من هذه المتوالية الا بقيادة سيارتك والذهاب هروبا إلى قرب ساحة عامة تقضي فيها الساعات الطوال على اكواب ونسة يومية ومكررة عن أحوال البلد وحكومة حمدوك والبرهان ومدني عباس مدني واستقالة الدكتورة مريم المنصورة، هذا الكفاح المدلوق في فنارات تزجية الوقت لا يكلفك شيئا أكثر من ثمن كباية الشاي ولياقة للحديث واصطبار للانصات وقدرة على الغلاط.
جاء فايروس كورونا المستجد.. وأصدر لنا فرماناته الرسمية الداعية للبقاء في المنزل، أهل التقارير المنعية يبدو أنهم لا يعلمون أن من يعملون في القطاع العام والخاص على حد سواء، ومن فرط استغراقهم في العمل، كانوا قديما أكثر الناس سعادة بالاجازات الطويلة، ينتظرون الأعياد، ويترقبون تلك المواقيت التي تأتي مع بدايات الأسبوع لكي يستمتعوا ببقية الايام في تعسيلة طويلة في ولايات السودان المختلفة، يغرقون في شبر النوم تحت ظلال الأشجار، والونسة العصرية والمغربية على وسائد صحو الذكرى المنسية.. يواصلون الأرحام ويؤدون واجبات الفواتح في المراحيم، كانوا باختصار شديد يسددون فواتير أعمال سنة ثم يستعدون للعودة إلى العمل في همة ونشاط ومزاج خال من منغصات هذه الأيام.
جاء الفايروس بفرماناته وصار السفر في ربوع السودان هو تلك الصور الشعبية التي مازالت في الانتظار.. ولكن يا سيدي أن أردت السفر بسيارتك الخاصة فأنت موعود بالاعتقال في وجهتك الجديدة بأمر الجازولين والبنزين.. اما ان قصدت الميناء البري فعليك أن تجهز الملايين من الجنيهات السودانية من أجل الحصول على التذاكر التي صارت قيمتها في أيامنا هذي تعادل ميزانية العام التي تقوم بتغطية جميع المطلوبات بما فيها بند الرفاهية والركلسة المحببة.
جاء الفايروس ولم تعد المكاتب المكندشة هي الملاذ والملتجأ.. فقالت الحكومة اذهبوا إلى منازلكم والزموها، كان الود ودنا أن نقول سمعا وطاعة يا ولية أمرنا الحكومة، ولكن كيف لنا أن نلزمها وهي الحبيبة إلى نفوسنا واشواقنا وسط هذا الجحيم الذي يسكنها.. دفعنا لكم مقدما من رصيد احتمالنا فيجب عليكم أن توفروا لنا نعمة الكهرباء حتى يبقى ندا خليك بالبيت موضوعيا ومقبولا.
ما يحدث لنا الان، ذكرني بقصة كنا نحكيها قبل 25 عاما أو تزيد تباهيا بمدنيتنا والكهرباء الموفورة لدينا التي ينتجها “خزان سنار”.. حيث كنا نحكي عن القادمين من شرقنا في سالمة وود اونسة وود العباس.. وحلمي عباس، وهي قرى يمكن أن تقصدها بعد الشيخ فرح ود تكتوك.. انهم يضعونك امام احد خيارين من واجب الضيافة إذا قمت بزيارتهم في قراهم المنتشرة فينا محبة وارتياحا، إما يعطونك “موية ليمون”.. أو يديروا لك “مروحة التربيزة.
هذا طبعا.. قبل أن يتحول السودان كله.. إلى قرية صغيرة تحبو نحو موجبات الرحمة والحياة.. فيا حكومتنا النبيلة.. نحن شعب ضعيف تقطعت به السبل وضاع أمامه الطريق.. فلا يعيش الا في الشوارع حيث الهواء العليل وغياب البعوض، لذلك إذا أرادت الحكومة أن تطاع فلابد ان تأمر بالمستطاع.. وبرضو خليكم بالبيت.