صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

قُلـت أرحَـل

247

صَـابِنَّهَا

محمد عبد الماجد

قُلـت أرحَـل

أضعف الإيمان أن تشارك الذين عاشوا (المُعاناة) في مُعاناتهم إن كنت لا تملك القُدرة لرفعها عنهم، في مشاركتهم لهم إحساسٌ بالرضاء والقبول في أن تقبل أقدارهم، وأن تجعل قدرهم قدرك، حتى وإن كنت تملك الهروب من ذلك المصير، أنانية منك أن تُشاركهم في أفراحهم فقط، عليك أن تكون معهم في أتراحهم أيضاً ـ الأقدار أحياناً تختار لك هذا المصير، فترفع عنك كاهل العجز والنقص والذنب بمُشاركتهم مُعاناتهم، وأحياناً كثيرة أنت مُجبرٌ على ذلك لا بطل. الأقدار كثيراً ما تختار لك القرار الصّحيح، لا ادّعي لنفسي فضلاً في البقاء في مناطق عاشت مُعاناة الحرب قرابة العامين، فقد كان الأمر فوق أن نختار، كان الأمر فوق طاقتنا، الاختيار رفاهية لا نملكها وكان لنا في ذلك رضاء، يوصلنا في بعض الأحايين لمرحلة السعادة ـ إن لم تستطع أن ترفع عنهم المُعاناة فكن واحداً منهم يعيش مُعاناتهم ـ وأحسب أنّ مُعاناة الذين عاشوا الحرب وهم خارج البلاد أو داخلها، ولكن بعيداً عن مناطق النزاع كانت أكبر، وهم يُشاهدون دمار البلاد وخرابها، ويسمعون عن تساقط الأبرياء من أبناء الوطن، وعن الشهداء الذين اختاروا ما لم نستطع إليه سبيلا عندما قرّروا أن يُقدِّموا حياتهم من أجل الوطن ـ ومن أجل الآخرين، فالشهيد يُقدِّم حياته من أجل أن يعيش غيره ويحيا في سلام وأمانٍ ـ الشهداء لا يُريدون شيئاً لأنفسهم، هم يبحثون فقط عن راحة غيرهم، لذلك هم شهداء.. لا شهيد ينتظر شيئاً من أحدٍ أو من سلطة، بعد أن يفارق الحياة، لذلك يبقى جزاؤهم فقط عند الله، هو وحده القادر على أن يرد الجزاء بما هو أفضل وأحسن وأعظم.
كان من الصعب علينا أن نكتب عن الحرب دون أن نعيشها، تجربتنا الصحفية كانت في حاجة إلى هذه المطبات والأزمات والمُعاناة، حتى نكتب عن رؤية ونعكس ما نعيشه، لا ما يعيشه الآخرون.
المُعاناة التي تُـولد الإبداع، هي التي تكون في قصة حُـب فاشلة، أو في العجز في تغيير موديل العربة أو الفشل في الالتحاق بوظيفة مُعيّنة أو الحصول على موبايل حديث أو السفر إلى الخارج ـ المُعاناة هنا يمكن أن تُولد الإبداع، أما المُعاناة التي عاشها الناس هنا، كانت مُرتبطة بالعيش والحياة، ومثل هذه المُعاناة لا تُولد غير البعوض والذباب والانتهازيين وتُجّار الأزمات.
وأنا أقرِّر المُغادرة والرحيل بعد أن استقرت المنطقة وعاد لها أمنها وسلامها، ، مُهمٌ أن أُدوِّن آخر الكلمات عن مُعاناة عشناها قبل الانتقال إلى مُعاناة أخرى، وحتى نشرك القارئ الكريم في كل خطواتنا، وربما كنت في حاجة أن أثبت ذلك في محضر رسمي، إيماناً بأنّ الكتابة كثيراً ما تختار لنا أقدارنا، وعندما تكتب عن شئ تبقى مُلزماً به، وقد قصدت الكتابة عن السفر حتى أضع نفسي أمام الأمر الواقع وأغادر.. فعلت ذلك حتى أسافر وليس هناك سبيلٌ للرجوع عن ذلك بعد الإعلان عنه.. والسفر قدر يختارك ولا تختاره، لذا نرجو المعذرة ونحن نكتب عن تفاصيل هامشية، فقد يشعر البعض أنّ هذا أمرٌ لا يعنيهم في شئٍ، وإن كنت دائماً أميل للتكفير بصوت عالٍ مع القارئ الكريم دون حسبة أو مخاوف أو ترتيب.. إن لم أنجح في الوصول لهذا مع القارئ الكريم، فإنّ ذلك فشل يُحسب عليّ، والخوف من الفشل لا يجب أن يجعلك تفتقد القدرة على الجرأة والاقتحام والصراحة.
إن شعر القارئ الكريم أن هذا الموضوع الذي تكتب عنه، لا يخصّه في شئٍ ولا يهمّه، فهو فشلٌ يُحسب على الكاتب، وأعتقد أنّ من أهم مكامن القوة لمواقع التواصل الاجتماعي ومن أسباب تأثيرنا وانتشارها أنها تكتب عن الخاص، ومواقع التواصل الاجتماعي الآن أضحت من أقوى أسلحة الإعلام. إذا كنت لا تستطيع أن تكتب وتتحدث عن الخاص فلن تستطيع أن تكتب وتتحدث عن العام.
في التجربة، الاستفادة من الفشل والاستفادة من النجاح يبقى بنفس القدر، صحيحٌ للنجاح فرحة لا تُضاهى، لكن هو يتساوى مع الفشل في التجربة من حيث الاستفادة والتعلم.
في أيام الحرب، كثيرون كانوا يطالبوني بالمغادرة والخروج، ويلوموني على البقاء، واعرف إنِّي لو غادرت كان عدد الذين سيلوموني على المغادرة سوف يكون أكبر.
اغادر الآن لأنِّي في حاجة إلى رؤية أخرى، رؤيتك للشئ لا تكتمل إلّا إذا كانت رؤية شاملة ـ بهذا نحن معنيون في مجالنا الإعلامي ـ لذلك سأنتقل لأعيش المُعاناة من جانب آخر، أبحث دائماً عن تجارب تعضد تجربتنا في الحياة، لا أقول تجربتنا في المجال الإعلامي، لأنّنا لم نبلغ بعد مرحلة أن نطلق أو نسمي ذلك تجربة، هي بعض من تلاقيط الزمن ـ بعض من جراحه المُبعثرة، وبعض من أفراحه المُتباعدة.. بعض من الشئ وبعض من اللا شئ.
دائماً أقول إنّ إحساسك بآلام الآخرين، يجب أن يكون أعظم من إحساسك بآلامك الذاتية ـ هذا أمرٌ قد يكون من الشعارات الجميلة، ومن المثاليات، لكن علينا أن نحسه ونعيشه وندعو له وإن كان ذلك على السبيل التجمُّل.
من هذه الحرب تعلّمنا أنّ هذا الوطن أعظم من أن نتاجر بأوجاعه ـ الإحساس بذلك مجرد الإحساس فيه تجنٍ على الوطن.
الوطن في غنىً عن توجعاتنا ـ فلا تقعدوه بوجعكم.
الذين يذبحون الوطن ليس هُـم فقط مَن يحملون البندقية لتدميره ونهبه وسلبه ـ هنالك كائناتٌ أخرى تقوم بذلك بلطف ولباقة أو بسياسة ودبلوماسية ومكر، ويقال لهم بعد ذلك شُكراً، ونمنحهم أوسمة الجدارة والبطولة والوطنية.
الخطر الحقيقي على الوطن يأتي من النفاق والفساد والظلم. يأتي بسبب الإبتعاد عن مكارم الأخلاق التي ارسل سيدنا محمد صلى الله عليه ليكملها ـ يتحدثون هنا عن (الكمال) لمكارم الأخلاق!!
احذر من الذين يسرقون الوطن باسم النضال والديمقراطية والوطنية والحرب أو السلام، فالكل تُجّـارٌ يمتلكون موهبة التجارة بالبضاعة بما يفرض السوق.
أيِّ تجارة قائمة على البغض والكراهية هي تجارة فاسدة وغير شريفة.
كنت بالمكر الصحفي (الحميد) الذي كان يقابله شاعر الشعب محجوب شريف بالحكمة، ويقابل كيدنا الإعلامي بالحسنة ونحن يدفعنا لذلك (السبق الصحفي)، كنت أحاول أن التقط أو أخرج من محجوب شريف بخبر مثير، ومحجوب لم يكن يتحدّث للصحف ولا لوسائل الإعلام، إلاّ أنه كان لا يكتم شهادته، وكانت رسالته القوية تصل حتى في صمته، وقد كانت مواقفه في غنىً أن نتحدث أو نكتب عنها، فهي مشهودة دون أن يكون لنا منها أو له حتى أجر المناولة، وقد كان محجوب شريف يفضّل أن تكون مواقفه في الخفاء بعيداً عن الإعلام.
مرة حاولت أن أجرّم الذين هاجروا وطالبوا باللجوء السياسي واستخرجوا جوازات أجنبية، قلت له مع كل المُعاناة التي تعرّضت لها والكبت والتكميم والسجون التي دخلتها في شرق البلاد وغربها وفي جنوبها وشمالها حتى أتلفت رئتك، رفضت الخروج من البلد وفضّلت البقاء متعففاً (معاك انتظاري ولو بالكفاف) في ظل عروض كثيرة من دول عظمى ومنظمات كبرى كانت تعرض له حق اللجوء السياسي وكانت تغريه بالجواز، وكان محجوب يرفض كل العروض (وعنك بعيد أبيت الرحيل)، وفضّل أن يبقى في سجون السودان الرطبة من قصور الدول التي كانت تُعرض له حق اللجوء السياسي (أخاف الطريق.. اللي ما بودى ليك.. وأعاف الصديق.. اللي ما بهم بيك).
لقد عاش محجوب شريف شاعر الشعب الذي كتب (حنبنيهو البنحلم بيه يوماتي وطن حدادي مدادي) في منزل مساحته 200 متر، ورفض بيتاً قُدِّم له بطول وعرض في إحدى العواصم الأوروبية.
كان رد محجوب شريف على تجريمي لمن طالبوا باللجوء السياسي وحصلوا على الجواز الأجنبي أن لكل شخص ظروفاً تختلف عن ظروف الآخرين، ولكل شخص تقديرات تخصّه وحده ونحن لا نستطيع أن نقرِّر لغيرنا، لذلك لا يعني أنّ الذين طالبوا باللجوء السياسي وحصلوا على جواز أجنبي بأنهم غير وطنيين، قد تكون ظروفهم وأوضاعهم فرضت عليهم ذلك، مع إنِّي كنت أعرف أنّ ظروف محجوب شريف كانت أقسى.. مع ذلك فضّل البقاء، ولكن في النهاية تعتبر قناعات تختلف من شخص لآخر، وهي يجب أن تُحترم.. وكان محجوب يقول ليس كل من رفض الجواز الأجنبي وطنياً.
كان هذا درساً تعلّمته من محجوب شريف الذي كان يُراهن على النوايا الطيبة للشعب السوداني، وكان يدعو من أجل أن تحقق أماني النوايا (يا شعب لهب ثوريتك، انت تلقى مرادك والفي نيتك)، من يراهن على النوايا لا بد من أنه وصل درجة من الطهر والنقاء جعله يثق في خفايا ونوايا، وهو الذي كما أشير كثيراً متعجباً جعل الإحساس بالحرية ملامح تمتد في جينات الشعب السوداني وفي أجيال قادمة، أنا ما زالت تلجمني هذه الملامح وأرى أنها أجمل بطاقة شخصية أصدرت للمواطن السوداني (نبض إحساسك بحريتك تبقى ملامح في ذريتك).. أن تبقى الحرية ملامح في ذرياتنا، فليس هناك أجمل وأروع من ذلك، لذلك أي سلطة قامت على الكبت والتكميم والذل والقهر لن تصمد كثيراً، في وطن يتنفس شعبه.. هذا الشعب يمكن أن يعيش بدون كهرباء، بدون سُكّر، بدون خُبز، بدون مرتبات، بدون دواء، بدون ماء تدخل بصورة مقننة وميسّرة، ولكن لا يعيش بدون حرية وكرامة.
الدعم السريع تهاوت لأنها مسّـت كرامة الناس، ونالت من حريتهم، وقبل الدعم السريع تساقطت حكومات عسكرية كثيرة مثل الذباب وأُسقطت بثلاث ثورات شعبية تبقى شامات في خد السودان الأسمر.
تعلّمت من درس محجوب وفي تقديره لمن طالبوا باللجوء السياسي وحصلوا على الجواز الأجنبي، أن احترم تقديرات الذين غادروا بيوتهم في ظل ظروف صعبة تعرّضوا لها أجبرتهم أن يتركوا منازلهم ويغادروا نازحين أو لاجئين، فقد كانت الأوضاع فعلاً تدفعهم لذلك وتجبرهم، وهم قد اختاروا الهجرة في أرض الله الواسعة وهي أمرٌ دعا الله إليها عندما يحدث الضيق.
مع ذلك، فقد كنت من بين الذين فضّلوا البقاء في منطقة شهدت نزاعات كبيرة وكانت الحياة فيها أشبه بالمستحيلة، لا ادّعي بطولة في ذلك، لأنّ الأقدار والظروف كما أشرت أحياناً قد تجبرك على قرارات تكتشف بعد حين أنها كانت صحيحة وتدرك من بعد أن المشيئة الإلهية تختار لك الأفضل حتى وإن بدا لك في خيارها المُعاناة والعذاب والابتلاء، كان الفاروق عمر بن الخطاب يقول إنّه كان يفضّل الابتلاءات حتى يرد على كل ابتلاء بقوله (إنا لله وإنا إليه راجعون) وكان يستحسن ذلك إلا في فقد ابنه، فهي الحالة الوحيدة التي كان يخشى فيها من الابتلاء.
كثير من الإخوة والزملاء وجدت منهم محبّة وعوناً ودعماً كبيراً دفعاً للخروج، وكنت في كل مرة أوعدهم ولا أخرج، واحسب أنّ في ذلك كان الخير كله، حيث أتاحت لي قرابة العامين في الحرب، فرصة للتعلم والتدبُّر والتفكير والقراءة لم نجدها حتى في سنوات الدراسة وفي مجالات العمل.
لقد خرجت من هذه الفترة بتجربة شاهدت فيها إيماناً ويقيناً من حولي في شرق النيل ومربع 10 الحاج يوسف تحديداً، فتعلّمت من ذلك كثيراً، كانوا مع كل المعاناة التي تعرّضوا لها صابـرين، صامـدين ثَـابتين، واثقـين، راضـين بأقدارهم لا تسمع منهم شكوى، وإن سمعت أصوات معدتهم وهي تئن وتتوجّـع وتصدر أصواتاً تدل على الجوع.
عاشوا ظروفـاً قاسية، مع ذلك لم يصدر منهم غير الحمد والشكر.
كانوا أسرةً واحدةً، اختفى الانتماء للقبيلة، واختفى حتى اسم الوالد من عناوين الناس، كانوا هكذا شيخ بدر ودكتور أيمن وأمجد العريس وأستاذ أمير والكوتش آدم كوكتيلا وأشرف وأبالو والغالي وعبد الرحمن وخالد جدو ونصر الدين ساتي وفيصل قرقور وهيثم وأيوب وبلّه وحاج علي وعادل وآدم التنو وعبده وعبودي وعباس ونميري وأنور ومصعب وصالح ومحمد وعبد الكريم وبكري ومعروف وأمجد وعماد وعصام والجاك وعثمان.. عُشرة شرق وعُشرة غرب، كلهم كانوا أسرةً واحدةً.
من المربعات الأخرى، تعايش معنا التاج محمد الحسن وجعيران وصالح بدران وسعد الدين خالد، وكان كل السودان معنا، بحبهم ودعمهم للتّكايا وأعمال الخير، حيث لم يغِـب عنا أبناء مربع 10 بالخارج، فكانوا في كل وجبة تُعد للمحتاجين وفي كل سلة تُمنح للمحرومين.
كنا نفقد يوماً بعد يوم احداً، إما بالموت أو بالاعتقال أو بالهجرة والمغادرة، شاهدنا ذلك في الصف الأول في الصلاة، غادره بسبب الموت عمر بركية والإخوان الهادي وجعفر سراج الدين اللذين لم يفصل الموت بينهما إلا أياماً معدودة، هؤلاء كنا نجدهم أمامنا في الصف الأول ينتظرون ويحلمون أن تنتهي الحرب، غادروا الحياة قبل أن تنتهي الحرب.
وظل الصف الأول في الصلاة يفقد في كل يوم، بل في كل صلاة من الصلوات الخمس أحد المصلين.
غادر الإمام، وغادر المؤذن والمأموم، ووصلنا لمرحلة كان العدد لا يتجاوز بعض الأشخاص… وكان في أيِّ غياب يسد شيخ بدر.
يصاحب ذلك أنّ أجسادنا كانت قبلة لكل الأمراض من حميات، والتهابات وما يُعرف عنها بالملاريا، وما يُعرف عنها بالضنك.. وكان دكتور أيمن بكري يحارب في كل تلك الأمراض وحده. وكان نصر الدين ساتي يفتح ابواب بيته حتي في زمن الاغلاق التام لكل البيوت ، وكان آدم كوركتيلا لا تغيب قهوته في وقت غابت فيه مياه الشرب ، وكان فيصل قرقور بسخريته وخالد جدو بهلاليته وهيثم الطيب بمثاليته يمنحونا كل الحب والفرح ، وكان بدرالدين ابشر امامنا في كل شئ.
عشنا كل الابتلاءات:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)) البقرة.
كان ردهم على كل هذه الابتلاءات أقوى وأعظم:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39)) الشورى.
الآن بعد أن رُفع البلاء، نقول بعد تجربة إنّ كل ما أصابنا كان خيراً، وإنّنا لم نخرج من تلك المصائب إلّا ونحن أكثر قوةً وإيماناً وأكثر حباً لهذا الوطن.
الذين غادروا بيوتهم أُجبروا على ذلك إمّا بالتهديد المباشر أو الدفع للخروج جبراً، وبعضهم غادر لأنه شاهد جاره أو قريبه يُقتل أمام عينيه وهو لا حول ولا قوة له، يمكن أن تفقد حياتك بسبب خمسمائة جنيه ويمكن أن تفقدها بدون سبب، إلى جانب ذلك، فإنّ الأجواء لم تكن صحية، كانت تفتقد حتى مقومات أن تستر ميِّتك، شاهدت في الأيام الأخيرة قبور بعض من دُفنوا أمام منازلهم، وسمعت عن بعض من قُتلوا أمام أعين الناس فتركوا سيرتهم تتحدّث عنهم.
في هذه الأوضاع، تعايشنا تحدي أن نصمد وأن نبقى في كل الظروف إيماناً بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
عمر بركية الذي رحل، كنت أقابله في الصباح وهو يقف على الشارع، كانت أساريره تتفتّح وتبتسم وهو يعد سيارات وعربات الدعامة ويقول لي: (الليلة عرباتهم قلّت شديد).
وكان الهادي سراج الدين الذي رحل ينتظر عودة التيار الكهربائي، وكان يُبشِّـر بنهاية الحرب.
صعبٌ عليّ أن أترك أمكنة شيّدناها بتلك الذكريات، ووضعنا في كل أركانها خطاوينا وحكاياتنا.
وردي قال في إحدى حوارته الصحفية: الأغنية التي اغنيها بكامل وجداني وكامل صوتي هي أغنية (قلت ارحل)، وعندما أصل إلى المقطع الذي يقول: زي وطناَ وكت اشتاقلو برحل ليهو من غير زاد.. عندما أصل لهذا الجزء لا بد أن تعترض حلقي غصة أو عبرة كما نقول بالرغم من إنني غنيت هذه الأغنية في عام 1972 بحدث هذا داخل الوطن أو خارجه.
ويقول وردي: عندما غنيت قلت ارحل كنت مغترباً داخل الوطن إذ لحنتها وأنا في السجن دون وجود آلة موسيقية.
ووردي يحكي عن (قلت ارحل):
في أكتوبر 1995 غنيت في حفل لندن.. وفي إحدى البروفات بكيت وأنا أغني قلت أرحل وفي أغنية وطنا في المقطع الذي يقول في حضرة جلالك لا أتمالك نفسي أيضاً.
سنرحل ونحن نيقن قبل الرحيل أن كل الأرض منفى، لكن على ما يبدو أنّ أقدارنا اختارت لنا أن نتُوه من مرفا لي مرفا، ونحن دائماً في تصالح مع أقدارنا، حتى لو أبعدتنا عن الوطن.
أقدارنا اختارت لنا ذلك:
أهوِّم ليل
أساهر ليل
أتوه من مرفا لي مرفا
أبدل ريد بعد ريدك
عشان يمكن يكون أوفي
والعيون إذا كانت بهذه الطبيعة فإن المرافئ تصبح مستحيلة.
عيونك زي سحاب الصيف تجافي بلاد وتسقي بلاد
وزي فرحاً يشيل مني الشقا ويزداد
وزي كلمات بتتأوّه.. تتوه لمن يجي الميعاد
وزي عيداً غشاني وفات عاد عمّ البلد أعياد
وزي فرح البعيد العاد
وزي وطناً وكت اشتاقلو برحل ليهو من غير زاد
بدون عينيك بصبح زول بدون ذكرى وبدون ميلاد
هل الرياح قادرة على أن تشيل تلك التجاريح:
زمان الفُرقة والتجريح بسِيبُو عشان تشيلو الريح
بسيبو عشان صحيح الذكرى بتّوِّه عمرنا صحيح
وإنتِ معايا لا بندم ولا بقضي العمر تبريح
أصلو العمر شوقاً، حزناً كان وصبراً كان فسيح وفسيح
أصلو العمر كان درباً مشيتو كسيح
وكان غرساً سقيتو بكى وقبضت الريح
رحلت وجيت
في بُعدك لقيت
كل الأرض منفى
في انتطار العودة بإذن الله لننتهي بصورة نهائية من تلك المنافي.
نعم في انتظار أن نعود من جديد للوطن.. لقد خرجنا من أجل تلك العودة.
والسلام.
قصدت أن أعرج عن مباراة الهلال، حتى أعود لها قبل 24 ساعة منها. ولنا في عطبرة حكايةٌ أخرى.

قد يعجبك أيضا
تعليق 1
  1. طارق جادالله يقول

    الأستاذ الصحفي محمد عبد الماجد إبن مدينتي مدينة شندي أحببناك وأحببنا يراعك الجميل قبل أن يحبك الهلالاب رغم أننا مريخاب بالفطرة لبساطتك ووطنيتك وصمودك النبيل نتمنى أن يحفظك الله ويحفظ البلاد والعباد من كل شر وأن يعيده لبلادنا الحبيبة الغالية أمنها وأمانها وإستقرارها ورخاءها وأن يرحم موتانا الذين فقدناهم في هذه الحرب القاسية.
    تحياتي
    طارق جادالله
    المملكة العربية السعودية
    الرياض

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد