صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد
مَـا تطلِّعُـوه لينا (بَطَـل)
أحاول أن لا أقسو على الفنان جمال فرفور، فقد وصلنا مرحلة من العمر وبلغنا درجة من الخبرات، أصبحنا لا نميل فيها للكتابة القاسية، ما يحدث الآن لو كان يحدث أيام كتاباتنا الفنية، كان بتفهموا حاجة، وكنا خلّينا ريحتهم طير طير، هم وآخرون، هسع بقينا نجنح للحكمة والتداوي بالكلمة الطيبة، (هي وينها الحكمة)؟أحيانا تبقى الحكمة فقط في الصمت ،لكن هذا لا ينفي حاجتنا إلى القسوة في الكتابة، وإن كنت مبدئياً أشعر أن مشكلة جمال فرفور ليس في فرفور نفسه وإنما في المجتمع، لذلك فإن قسوتنا هنا ضد المجتمع وليس ضد جمال فرفور، وكلما تقدم بك العمر وزادت الخبرات، أدركت أن الكتابة عن الأشخاص غير مُجدية، وأن شخصنة الأمور أمر غير لائق، لذلك نحن نكتب عن ظواهر وحالات، ولكن عشان الموضوع يقع للناس بنكون في حاجة نبني عليها سلباً كان ذلك أو إيجاباً، وعادةً ما يكون أحد الشخوص أفضل مثال لهذه الحاجة، ونحن حتى وقتنا هذا لا نستوعب المواضيع إلا إذا اقترنت بالشخوص ـ لذلك قد يشعر بعض الناس أن هنالك شخصيات مستهدفة، وفي حقيقة الأمر أننا لا نقصد بالكتابة عنهم إلا الحالة التي هم فيها أو الحالة التي تسبّبوا في وجودها أو إفرازها.
في السودان أو في مجتمعنا هذا، أصبحت أنا في حيرة من ظاهرة رائجة، وأخشى أن اقول غالبة، وهي ظاهرة موجودة عندنا منذ زمن، وربما منذ الأزل، وهي بالتأكيد لم تخرج من فراغٍ، ولكن الحرب أظهرتها بصورة واضحة، وكطبيعة الحروب في كل العالم والعصور أن تظهر السوالب والقوابح، ونحن في مرحلة يكاد أن تختفي فيها المحاسن، وتوشك الإيجابيات أن تتلاشى، وفي وقت مثل هذا قد نكون في حاجة إلى بعض القسوة في كتاباتنا، فما ليس يؤلم لا يشعرون به.. الظاهرة التي ظهرت بشكل واضح ،هي الهجوم على الضحايا والوقوف مع الجناة.
أذكر إنّنا كنا في زحام، وهذا خروج من الموضوع، وكان الناس في تسابق نحو شئ ما، في هذا الزحام، خرج شاب جاء إلينا مهرولاً وهو يعتذر لشاب آخر ويقول له: معليش (عفصتك) من غير ما أقصد، والعفص في الزحام عادي ،فقال الشاب الذي اعتذر له للمعتذر، اسمع في الزحمة دي إذا عفصتني ما تعتذر لي ولا تجيني، ولا تقيف في موضوع زي دا، لكن لو في حاجة وقعت مني جيبها لي ـ قال ذلك وهو يراجع جيوب بنطاله وقميصه وكأنه فقدَ شيئاً ـ في الزحام نسقط الكثير من تقاليدنا الجميلة وفي السباق نبحث فقط عن الهدف دون التقيد بشروط ولوائح السباق.
أتعجّب جدا أننا كمجتمع أصبحنا نتعاطف مع (الجاني)، ونقف معه وننصره، وأصبح (الضحية) عندنا في محل يفرض علينا أن نوجه نحوه سهامنا ونقدنا وأن نتجرد نحوه من الرحمة، ومن إنسانيتنا، تلقائيًا أصبحنا نقف مع القوي، ولا نأبه بالضعيف، ولا نقف عنده، وإن كان مظلومًا، هذه ثقافة روجت لها الحرب، والثابت والطبيعي أن تكون مساندتنا ودعمنا للضحية وليس للجاني، لذلك أصبح هنالك رغبة عند الناس أن يكونوا (جناة) لأنهم إن كانوا (ضحايا) فلن يرحمهم أحدٌ، والواقع الآن يؤكد ذلك، لذا أصبحت الإساءات هي السائدة والاتهامات هي المتبادلة، وكلما كان لسانك طويلاً وزفراً تحاشى أن يوجه لك الناس إساءة أو انتقاداً.. بل قد تكون بينهم محترماً، تُحظى بالتقدير والمكانة الرفيعة، فمن يخافك يهابك.
في قضية جمال فرفور سوف نجد أن فرفور عندما تعرض لاتهامات خطيرة وغير مقبولة تطعن في إنسانيته وفنه، بل وفي شرفه، عبر سلسلة لايفات أطلقها شريف الفحيل، إنّ الغالبية ذهبوا مع اتجاه الفحيل، وإنّ كثيرين خرجوا يشتِّموا ويقدموا الإساءات بغير حق للفنان جمال فرفور، وكان بعضهم يشمت، في الوقت الذي كان يفترض أن يوجه اللوم والنقد، بل والمحاسبة للفنان شريف الفحيل الذي أطلق اتهامات من منطلق شخصي أو من غيرة فنية في حق فرفور ومحمد بشير الدولي، لكن الملاحظ أن الناس أو كثيراً منهم كانوا سعداء بذلك وكانوا يترقبون وينتظرون لايفات الفحيل، ويتناقشون عن الفنان الذي يمكن أن يكون عليه الدور بعد فرفور، والفحيل ليس جهة قضائية ولا نيابية ولا حتى إعلامية ليخرج تلك الاتهامات في حق زملاء له، ويطعن فيهم ويُشوِّه شخصيتهم وهم نجوم وفنانون يتضرّرون من ذلك وإن كان نقداً يخرج بلا سند وبلا أدلة، الغريب والذي أعجب منه أن زملاء فرفور ومحمد بشير من الفنانين لم يشهدوا لهم ولم يدينوا الفحيل على تلك الاتهامات، ربما خوفاً أو تحاشياً من أن يُوجّه لهم الفحيل النقد، ونفس الفنانين الذين اطربتهم اتهامات الفحيل لفرفور ومحمد البشير، واستمتعوا بها، خرجوا علينا الآن ليعلنوا عن تواجدهم وعن عنترياتهم وهم يسلون سيوفهم على نقابة المهن الموسيقية، لأنها فصلت فرفور من عضويتها، وفصل فرفور من نقابة المهن الموسيقية أمر (إداري) يمكن أن يخضع للمراجعة والمحاسبة ويمكن لفرفور بطرق قانونية ان يسترد عضويته، وفرفور رجل قانون، تخرج من كلية القانون وعمل في المحاماة وفي النيابة، وعمل ضابطًا في جهاز الأمن، وهو يعرف أن يسترد حقوقه، وهو يمتلك المؤهلات القانونية التي تمكنه من ذلك، وقد سكت فرفور عن الاتهامات التي وُجِّهت له من الفحيل، فكيف يعتب على زملائه في عدم إنصافه وهو لم ينصف نفسه، مع ذلك فإن الاتهامات التي وجهت له من الفحيل جعلته يفقد الثقة في الوسط الفني وفي زملائه الفنانين الذين عملوا (طه القرشي في المستشفى) أمام الفحيل وعملوا (مريم الشجاعة) أمام نقابة المهن الموسيقية.. وكما قلنا كانوا أسودًا أمام نقابة المهن الموسيقية ونعامًا أمام الفحيل.
عليكم أن تدينوا شريف الفحيل في اتهاماته التي وجّهه لفرفور قبل أن تدينوا نقابة المهن الموسيقية في عقوبة إدارية.
فرفور مسّـته اتهامات تمس (أخلاقه وشرفه) من الفحيل، أما من نقابة المهن فإن الضرر يقع عليه (إدارياً)، وفرفور في حاجة من زملائه أن يقفوا معه في ما يمس أخلاقه لا في ما يمس عضويته لاتحاد المهن الموسيقية.
فرفور عندما كان (ضحية) من جراء اتهامات غير حقيقية وُجِّهت له وتداولتها المواقع ونشرتها، لم ينصر فرفور ولم ينصف ولم يدن الفحيل، وعندما أصبح فرفور (جانياً) وهاجم الوسط الفني بكلمات غير لائقة، لا تقل عن الاتهامات التي وجهه له الفحيل، جعلوه (بطلا)، واتهامات الفحيل لفرفور أقل وطأة من الاتهامات أو الإساءات التي وجّهها فرفور للوسط الفني، على الأقل الفحيل وجّه اتهاماته لأسماء محددة، وشخصيات بعينها، عكس فرفور الذي طعن في الوسط الفني كله، ولم يستثن أحداً، لذلك أرى أن قرار نقابة المهن الموسيقية مقبول وهو طبيعي، فهي المناط بها الدفاع عن الوسط الذي تمثله حتى وإن كانت هناك أخطاء إجرائية صاحبة صدور القرار وهذا أمرٌ مقدور عليه، وما سقط إدارياً يُقوّم إدارياً وليس بالهجوم على مؤسسة أو نقابة (مدنية)، منتخبة بواسطة الأعضاء الذين كان جمال فرفور أحدهم.
لقد جعلوا فرفور (بطلاً)، وهو الذي فُصل من نقابة المهن الموسيقية لأنه تجنى على زملائه ووصفهم بالقذارة والوسخ وهو يقول ذلك عن وسط هو عضو فيه، فإن فصل منه والوسط بهذه القذارة أتغضبون له كل هذا الغضب؟ عليكم أن تفرحوا له إن كنتم تتفقون معه على قذارة الوسط الفني.
إني أعجب من الهجوم الذي يوجه لرئيس نقابة المهن الموسيقية، نجم الدين الفاضل والمحاولة للتقليل فنياً منه، وهو هنا يشغل منصباً إدارياً انتخب له واختاره الفنانون أنفسهم ليمثلهم وليكون رئيسهم، وفرفور واحد منهم، مع ذلك فإن من يجهل نجم الدين الفاضل كفنان فهذه مشكلته، فهو فنان له أغنياته الخاصة وأعماله الخالدة، وفوق هذا عُرف بالسلوك القويم والأخلاق العالية وإلا ما اختاره الفنانون ليكون رئيساً لهم.
أما الذين تذكروا الفنان الشاب صفوت الجيلي فجأة فك الله أسره من سجون وقمع مليشيات الدعم السريع التي لم يسلم من بطشها حتى الفنانين، عليهم أن يوجِّهوا خطابهم للدولة والسلطات والمنظمات المدنية والدولية للتحرك من أجل إطلاق سراح هذا الفنان، ونقابة المهن الموسيقية لا تملك مدفعاً ولا بندقية، ولا صوتٌ الآن إلا لصوت الرصاص، لذلك عليكم أن تسألوا الجهات المسؤولة عن ذلك، وإن كنت أثق في أنّ نقابة المهن الموسيقية تحركت في ملف الفنان صفوت الجيلي الذي طال أسره في زنازين الفئة الباغية.
لتجميل وجه فرفور ولإثبات تحركه من أجل الفنانين الذين أساء إليهم، نشروا فيديوهات تجمع فرفور مع مني ماركو مناوي، وأعتقد أن مشاكل الفنانين إذا كان سوف يحلها مناوي، فإن جمال فرفور محق في الإساءات التي وجهها لهم، مناوي جزء من الأزمة والمشكلة وهو غير جدير بحل أزمة الفنانين أو المساعدة في تقديم الحلول لهم.. وخير للفنانين أن تبقى مشاكلهم من أن يحلها رجل هو جزء من الأزمة.. مشاكل الفنانين لن تحلها لهم الحركات المسلحة، مشتركة أو غير مشتركة فأهل الوسط الفني أكبر من ذلك.
في مصر وهي أكثر انفتاحاً منا وأكثر نشاطاً فنياً واجتماعياً من السودان، هنالك نيابة وقوانين تحاسب على فواحش الميديا وعلى كل من يعمل أو يساعد في نشر الرذائل، وتشويه المجتمع، في السودان نحن في حاجة لمحاسبة الخارجين (فحشاً)، في الميديا، ولا نقصد بذلك تضييقاً للحريات ولكن نقصد تجميلاً لها، والحرية في حاجة إلى قوانين تحرسها من المتفلتين والمتجاوزين في حقوق الآخرين، والمتعدين حدود الدين والوطن، على أن تكون المحاسبة بمفهوم قانوني وليس أمنياً أو بوليسياً كما تفعلون.
نحن نتفق أن هنالك الكثير من التجاوزات في الوسط الفني، ولكن هذا لا يعطي جمال فرفور الحق في الإساءة إلى وسط هو فرد منه.
بقى أن أقول، إنّ هنالك فناناً جميلاً يغني بفكرة ويتحرك بفكرة ويقدم روائع بفكرة بعيداً عن الصخب ومنصات الإساءة وحركات التنمر، وهو الفنان محمد عبد الجليل الذي يقدم روائعه في صمت، لأن الصمت أصبح لغة المحترمين.
وهنالك ابوبكر سيد أحمد و محمد شبكة وضياء الدين السر وكثيرون اختاروا أن يتحركوا في صمت، لأن الصخب هنالك مع شريف الفحيل وفرفور وعشة الجبل وهبة جبرة.
أخيراً أقول حتى لا أهضم حق فرفور الفني، إنّ جمال فرفور مع محمود عبد العزيز يعتبران الوحيدان من جيلهما وحتى الآن تميزا بأسلوبهما الخاص، وكان لكل منهما أسلوبه الخاص ومدرسته المتفردة التي تأثر بها كل من جاء معهما أو بعدهما، والفنانون بعد منتصف التسعينات إما اتبعوا أسلوب محمود عبد العزيز فكانوا (حواتة)، واما اتجهوا نحو طريق جمال فرفور فكانوا (فرافرة)، غير أن محمود عبد العزيز تميز بمدرسته في أعماله الخاصة حيث كان لكل أغنية لمحمود عبد العزيز شخصيتها الاعتبارية وكانت شرائطه ظاهرة وحالة لا يمكن تجاوزها، كما أن مدرسة الحوت تبقى في جماهيريته وشعبيته التي مازالت تردد (ما بنطيق لغيره نسمع).
فرفور أخطأ في حق الفنانين كلهم هو لم يخطئ في حق فنان واحد أو اثنين مثل شريف الفحيل هو أخطأ في حق الوسط الفني كله، لذلك اعتذاره واجب إذا أردنا أن نعدل المسار ونصحح الوضع، كذلك يجب محاسبة شريف الفحيل على تصريحاته التي تمس زملاء له في أخلاقهم وشرفهم.
ولا تثريب على نقابة المهن الموسيقية، فهي قد فصلت عضواً يصف الوسط الذي تمثله بالقذارة والوسخ.
…
متاريس
إذا لم نحترم المؤسسات المدنية والنقابات المنتخبة قياداتها، والوسط الذي ننتمي إليه، فلن يتقدم السودان.
نحن أصلاً مشكلتنا في السودان عدم المؤسسية، فلا تشرعنوا للفوضى ولا تدعوا لها.
في أي دولة، الخطأ على الجماعة عقابه أكبر من الخطأ على الفرد.
لا بد من أن تكون هنالك قوانين تحاسب على تلك الاتهامات والادعاء على الغير.
ربما شعر فرفور أنه لم يُنصف أو لم يأت حقه فأراد أن يأخذ حقه بلسانه.
بس فرفور ترك الفحيل واتجه يأخذ حقه من جهات أخرى ما عندها ذنب.
وفي كل الأحوال، لا تجعلوا من جمال فرفور بطلاً، فهذا الذي جاء به فرفور أو هذا الذي وقع عليه لا يمنحه شيئاً من البطولة.
…
ترس أخير: كفاية كدا وليس كل ما يُعرف يُقال.. أو كل ما يعرف (بقال).