صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

تعالوا أيها الجوعى.. تعالوا أيها الفقراء

28

زووم

ابوعاقلة اماسا

تعالوا أيها الجوعى.. تعالوا أيها الفقراء

* كنت مستلقياً على أريكة مريحة ذات صباح أتابع برنامجاً على إحدى القنوات العربية في حلقة الإعادة عندما دلف صديقي ملقياً التحية باقتضاب.. وبعد أن جلس شارداً لحوالي ثلث الساعة انتهى البرنامج التلفزيوني وتفرغنا لجلسة اعتدنا عليها كل صباح، نتناول فيها مفارقات الراهن في الساحات السياسية والرياضية، ولكن في ذلك اليوم كان الموضوع مختلفا.. قال لي صديقي مبتدراً: (لم أتوقع أن يصل السودان إلى هذا الحد، فقد امتلأنا بالمآسي وغرقنا فيها لدرجة أننا فقدنا الإحساس بالمفاجأة والدهشة).. طلبت منه أن يدخل الموضوع مباشرة بدون مقدمات.. فقال لي: تصدق أن تلميذا من تلاميذ مدرسة (…….) قد أغمي عليه بعد الثانية عشرة من ظهر أمس..؟.. قطبت جبيني من الدهشة، وثارت ثائرة الفضول عندي فسارعت بسؤاله: لماذا؟
فبدأ في سرد الواقعة المؤلمة قائلاً: (ف.م.ع) تلميذ خجول جداً، كما أن أسرته تعيش تحت خط الفقر كما تعلم، وجدته أستاذة سناء أمس، مغشياً عليه خلف الصف الثالث، وبعد أن حملوه إلى مكتب الوكيل وأجروا له إسعافات أولية، فتح أعينهم وكان شاحباً ومنهكاً لدرجة لا تخفى على أحد، سألته أستاذة منى بعاطفة تجيش أمومة: مالك ياولدي؟.. فرد الولد بصوت واهن: أنا جيعان يأستاذة، من أمس ما أكلت..!
كان ذلك يعني أنه لم يتناول وجبة الفطور، والساعة تقترب من الواحدة ظهراً.. ساد جو من الصمت والوجوم، بينما أجهشت المعلمات بالبكاء والنحيب..!
لم أستطيع حبس دموعي، فاستغرقت في التفكير لفترة زمنية ليست بالقصيرة، تخيلت فيها أن هذا الطالب أحد صغاري.. أو كان بن جاري.. ماذا سأقول للخالق يوم القيامة؟
هذا ما كان يدور بخلدي، ولكن.. وكما يقول المثل: كل زول بي همو..!
* مرت الأيام سريعاً وشهدنا ثورة الشباب السوداني، وانهالت علينا الأحداث والمصائب، حتى فوجئنا بالقائد الجديد البرهان يعلن عبر حوار له بصحيفة (التيار) أنهم عثروا على تسعة ملايين يورو، بمنزل الرئيس المخلوع عمر البشير، وذلك الرقم بالنسبة لي شخصياً لم يكن مفاجئاً ولا مدهشاً، لأنني فقدت الإحساس بالاندهاش من سنوات تعادل أكثر من نصف عمر ثورة الإنقاذ التي أنقذتنا فعلاً من ماء يغلي وألقت بنا في النار.. ولكن.. ذلك الخبر جعلني أسترجع صورة الطفل الذي أغمي عليه جراء الجوع، وقطعاً هو مجرد مثال في نطاق جغرافي قريب جداً من موقع الرئيس السابق، وكذلك هو في مسؤولية ديوان الزكاة الذي يتطاول كل مرة بالأبنية ويحرص على امتطاء مسؤوليه الفارهات من المركبات.. فالتسعة ملايين يورو، كانت تكفي لتغطية نفقات صغارنا الذين لفظتهم المدينة من أحشائها المترفة إلى أطرافها المعدمة.. لأن مايسد رمق الواحد منهم لا يتجاوز الخمس جنيهات.. وهذه تسعة ملايين يورو، ملقاة تحت سرير الرئيس عمر.. وما بين عمر هذا وعمر بن عبدالعزيز يفوق ما بين السماوات السبع مجتمعة.. على خلفية هذه الواقعة فقط، ونحن لا نريد الحديث عن الملايين والمليارات التي اكتنزت ولم تنفق في سبيل الله كما كان يقال لنا عندما كنا نجهل ما يجري خلف كواليسهم.
ومرت الأيام سريعاً
* وعاش الشعب السوداني ومايزال يعيش لحظات عصيبة من مخاض ثورته الظافرة ولا أحد على الإطلاق يستطيع أن يراهن بأن ما ينتظرنا في قادم الأيام أفضل من السابق، اللهم إلا أماني ودعوات ومن ثم عزيمة الشباب التي لا ولن تلين حتى يضع اللبنة الأولى في بناء دولة تنتظم صفوف الدول الأخرى، شهدنا مذبحة القيادة ومازالت تداعياتها تترى بعد عودة الإنترنت وانتشار مقاطع الفيديو التي تقطع القلوب وتدمي الحجر، واحتشدت الشوارع بالمعسكر الذين نشروا الطمأنينة في ظاهر الأمر ونهاره، ونشروا الرعب في باطن الأمر وليله، وأنا هنا لا أريد توزيع الاتهامات ولكنني سأنقل لكم بالضبط ما يحدث بالحارة التي أسكنها هنا في ولاية الخرطوم وليس على سفوح جبل مرة حيث الجماعات المسلحة.
* سكنت مجموعات من وحدة عسكرية معروفة وذائعة الصيت هذه الأيام شرق حارتنا، بينما سكنت فئات أخرى في الغرب من ذات الموقع، ومنذ ذلك التأريخ لم يعد صوت الرصاص غريباً على مسامع أطفالنا وبقية أسرنا التي كانت آمنة إلا من زوار الليل الذين يستهدفون الهواتف، فهي قد تكون أقيم ما يملك الإنسان هنا، ولا شيء يمكن أن يباع أو نصنفه ضمن (ماخف وزنه وغلا ثمنه).. ولكن.. بعد أن سكن العسكر شرق الوادي.. أقصد شرق الحارة، اختفى زوار الليل، وارتفعت أصوات البنادق، وما أن تغرب الشمس حتى يبدأ الجميع في ترقب ما سيحدث في تلك الليلة.. وكم من الذخيرة ستطلق في الهواء؟ وكم من الأطفال سيلفهم الرعب جراء ذلك العبث؟
* تكون مستلقيًا على سريرك فتسمع أصوات الرصاص فردى ومجموعات، ولكن أبرز تلك الأحداث كانت قبل عشرة أيام، تقريبًا من كتابة هذا المقال، عندما احتدت مجموعتان تنتميان لفصيل واحد ومعروف مع بعضهما وانطلق الرصاص كزخات المطر.. وقتها لم تبلغ الساعة الحادية عشرة مساء، ولما كان التيار الكهربائي مقطوعاً، وكل الأسر تفترش حيشانها لم يكن من الصعب تحديد موقع الحدث وصوت الذخيرة.. فياللعجب.. فقد كان الصوت قادمًا من ساحة تجاور تلك المدرسة التي شهدت واقعة التلميذ الذي أغمي عليه من الجوع في آخر عام دراسي في عهد الإنقاذ البغيض..!
* تخيل عزيزي القارئ أن حوالي ١٥٠ طلقة، ذهبت في الهواء، سعرها لايقل عن ملايين، بينما تقع في الجوار مدرسة أساس لا يقل عدد التلاميذ اليتامى فيها عن مائة تلميذ، فضلاً عن المعدمين الذين لا يجدون سعر قطعة خبز بجنيه واحد، وثلاث قطع من الطعمية بجنيه أيضاً حتى يسدوا رمقهم ولايغمى على أحدهم من الجوع..!
* نعم.. تخلصنا من نظام كان يكتنز المليارات ويجيرها لمصلحة أفرادها ليعيشوا ترفاً دنيوياً زائفاً في أحياء كافوري وغيرها، ولكننا نخاف أن يمضي الجدد في ذات الطريق فلايجد أطفالنا ساندوتش الطعمية للفطور، فكلهم يأتون من قاع المدينة وفي النهاية يبني كلا منهم قصرا على رؤوس الفقراء والجوعى..!

وتمر الأيام سريعاً

* بعد أيام من تلك الواقعة كنت على موعد مع السفر إلى جنوب كردفان لزيارة والدي، فقد قضيت شهوراً مع المرض وكان قلقاً وبقية عائلتي هناك، فرجوتهم ألا يأتوا لزيارتي على أن أسافر لزيارتهم متى اشتد العود ووجدت نفسي قادراً على تحمل وعثاء السفر.. فقررت أن أفي بوعدي في الثالث من رمضان، وقد سبق لي أن كتبت عن تلك المنطقة قبل عامين، وكيف أن الإنسان يبذل جهداً خرافياً من أجل الحصول على (باغة) من ماء الشرب، ليس لهدمها في جوف الأرض أو انعدام الحلول، وإنما هي متراكمات إهمال الحكومات لأغوار جبال النوبة ومناطقة الثرية بإنسانها وطبيعتها.. وفي هذه المرة كانت الزيارة مختلفة في كل شيء، وبدلاً أن أطوف بالمناطق لإشباع فضولي الصحفي، كان قدري أن أتوسد سريري ببيت والدي فيأتي جميع أهلي من البقاع لزيارتي، فكانت هنالك مايشبه الندوات حول ذلك السرير، يتحدثون عن مشكلة مياه الشرب وهموم أخرى وتارة ينصبون لي الكمائن يسيل من الأسئلة في شغف ولهفة لمعرفة مستقبل مايحدث بالعاصمة بعد الثورة، ومن خلال ذلك عرفت أن بعضهم ملم بما يحدث في ساحة القيادة وكأنه من سكان بري.. تحدثوا جميعاً بلهجة مشحونة بالآمال العراض بأن يشهد العهد الجديد نهاية الحرب وبداية التنمية المستدامة التي ينتظرونها زمانا تبادلت فيه الحكومات وظل الحال كما هو.. الحال هناك أسوأ مما يتوقعه أكثر المتشائمين في المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، ومع ذلك لم يفكر أي منهم في أن الإنسان في تلك المنطقة ينتظره بفارغ الصبر ويعلق عليه آمالاً عراضاً لم يعلقها على السابقين.
تعالوا أيها الجوعى.. تعالوا أيها الفقراء

* من أجل ذلك نقتبس من أغنية مصطفى سيد أحمد لنكتب: تعالوا أيها الجوعى.. تعالوا أيها الفقراء والشرفاء لنتشارك هم بناء الوطن على قاعدة من الحرية والعدالة والمساواة.. نفوت فرص الظلم والاستبداد على حكامنا حتى لا تكرر التجارب.. نتزوَّد بالأمل ليكون همنا الأول والأخير بناء سودان جديد.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد