صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

حين تعجز الحروف عن البوح

134

هلال وظلال
عبد المنعم هلال

حين تعجز الحروف عن البوح

ـ في فاجعة جديدة شهد نهار أمس قصفاً غادراً من المليشيات الجنجويدية استهدف سوق صابرين ليحصد أرواح أكثر من 60 مواطناً بريئاً. كيف يمكن للحروف أن تصطف في سطور الرياضة ودماء الأبرياء تنزف على أرض الوطن ..؟ كيف نكتب عن الهلال والمنافسات الأفريقية والمحلية والمباريات والتسجيلات في وقت تتحول فيه الأسواق إلى مقابر جماعية وتزهق فيه أرواح الأبرياء في حرب لا يد لهم فيها ..؟
ـ في الأوقات العادية تكون الكتابة ملاذاً تكون مساحة للبوح وتكون سلاحاً لمواجهة القبح والظلم والخذلان لكن كيف نكتب وسط المآسي ..؟ كيف نصوغ العبارات ونحن نترنح من ضربات الفقد ..؟ كل يوم يأتي بخبر جديد عن صديق رحل وعن بيت تهدم وعن حلم تبخر وعن وطن يتمزق.
ـ هل الكتابة عن الرياضة والفن تعد ترفاً في وقت تملأ فيه الدماء أرض بلادنا وتثقل المآسي صدورنا ..؟ قد يبدو الأمر كذلك لكن ربما تكون الكتابة في هذه المساحات محاولة للتمسك بالحياة وسط الموت وبحثاً عن بصيص أمل في ظلام الحرب فالرياضة كانت دائماً ملاذاً يجمع الفرقاء والفن ظل صوتاً للحياة مهما اشتد الخراب لكنها في لحظات معينة تصبح الكلمات عبئاً والمواصلة ضرباً من الإنكار حين تغرق البلاد في الدم وتصبح الأحلام مجرد رفاهية لا يليق الحديث عنها.
ـ كيف نكتب وسط هذا الركام ..؟ كيف نلملم الحروف وهي تتناثر كأشلاء في مدن دمرتها الحرب ..؟ كيف نبحث عن معنى للحياة ونحن نشيع كل يوم صديقاً أو قريباً ونرثي أحلامنا قبل أن تتحقق ونعيش على حافة الخوف ..؟
ـ لعن الله الحرب هذه اللعنة التي نعيش تفاصيلها بكل قسوتها نسمع صدى أصواتها في الصمت الذي يخلفه الغياب. لم يعد الحزن مؤجلاً ولم تعد الدموع تذرف فقط في لحظات الوحدة فقد صار الفقد روتيناً وصار الوجع جزءاً من الحياة اليومية.
ـ لم يعد الحزن حالة طارئة ولم يعد الفقد استثناءً.
ـ صار الموت ضيفاً ثقيلاً لا يغادر يجلس بيننا ويسرق منا الأسماء التي نحب ويمحو تفاصيل العشرة والود والذكريات. ـ ننام متوجسين ونصحو خائفين نحاول التظاهر بأننا ما زلنا نعيش لكننا في الحقيقة مجرد ناجين مؤقتين حتى صار العمر سلسلة من المآسي المؤجلة.
ـ نفتح هواتفنا كل صباح بتوجس نتصفح الأسماء والرسائل بأمل ألا نقرأ خبراً جديداً يوجع القلب. نبحث عن أصدقائنا وأحبابنا في أماكنهم المعتادة فلا نجد إلا صوراً قديمة وذكريات تزداد وجعاً كلما مر الزمن. أي كلمات يمكن أن تصف شعور من فقد أهله أو اضطر للرحيل عن مدينته أو من بات لا يعرف إلى أين ينتمي ..؟
ـ نغالب أنفسنا ونكتب عن كرة القدم وعن الفن وعن الحياة ونحن نعيش في وطن تتلاشى معالمه أمام أعيننا ..؟
وعندما نكتب عن كرة القدم والفن ليس لأن الحياة بخير ولكن لأننا نحاول أن ننسى نحاول أن نغالب أوجاعنا ونحاول أن نقنع أنفسنا بأن للحياة وجوهاً أخرى غير الحزن والمآسي. نكتب لأننا نريد للحياة أن تستمر بكل قوة وإرادة رغم كل شيء ولكن في بعض اللحظات تخذلنا الكلمات وتستعصي علينا الحروف ونرفع القلم ولا نستطيع أن نخط به حرفاً واحداً لأن الآلام تفيض عن قدرتنا على الاحتمال ولأن الكوارث تتراكم حتى تخنق كل محاولة للبوح.
ـ نكتب أحياناً لنقاوم الانكسار لنقول إننا ما زلنا هنا لكن ما فائدة الكلمات إن لم تعد قادرة على إيقاف النزيف ..؟ كلما حاولنا التعبير عن هذا الخراب وجدنا الكلمات هشة خجولة غير قادرة على احتواء حجم الألم. هل تكفي بضعة سطور لنرثي وطناً يتمزق ..؟ هل تسعفنا اللغة حين يموت أعزاؤنا دون وداع ..؟
ـ وسط المآسي والحزن والعجز عن الفرح نكتب ولكننا لا نجد الكلمات نصرخ ولكن أصواتنا تذوب وسط دوي المدافع. ما أصعب أن تكون شاهداً على احتضار وطنك وما أقسى أن تعيش يومياً خوفك من أن يكون دورك في الفقد قد حان.
ـ نكتب عن الوجع أكثر مما نكتب عن الأمل نرثي أكثر مما نحتفل ونعيش بين انتظار الفاجعة القادمة ومحاولة النجاة من الحاضر الكئيب كم صديقاً فقدنا حتى الآن ..؟ وكم قريباً غادر بلا رجعة ..؟ وكم حياً كنا نعرفه صار الآن أطلالاً وصوراً باهتة في الذاكرة ..؟ نحاول التظاهر بالقوة لكن الحقيقة أننا لم نعد كما كنا وكل هذا الحزن يترك أثره وكل هذا الفقد يسرق منا أجزاءً من أرواحنا.
لعن الله الحرب … لعن الله كل من أشعلها وكل من تغذى عليها ومن تاجر بدمائنا ومن جلس يتفرج علينا ونحن نحترق.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد