صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

دَولة اللا دَولة

208

صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد

دَولة اللا دَولة

في مباريات الهلال لا يطمئن قلبي ولا أستكين إلّا بعد الهدف الثاني، إذ تظل روحي مُعلّقة (تطلع وتنزل) مع كل هجمة إلى أن يسجل الهلال الهدف الثاني، فالتفت إلى كباية الشاي التي أمامي، لأشربها بمزاج، بعد أن كنت قبل الهدف لا أشعر بوجودها.
الجيش سجّل الهدف الأول.. في المصفاة وفي بحري، ومدني والجزيرة وقبل ذلك في أم درمان، ثم شرق النيل وفي كثير من المناطق بحمد الله وفضله، وانتظر الهدف الثاني في الفاشر والجنينة والفولة والدلنج وجنوب الخرطوم وجنوب وغرب أم درمان وكل مناطق الحرب، تبقى فرحتنا الآن منقوصة طالما كانت هنالك مناطق تُعَانِي من الحرب التي عشنا أوزارها ونعرف مراراتها جيداً.
من لم يعش نعمة دخول الجيش، فقد فاته الكثير، شاهدتهم بعد أن دخلوا لشرق النيل وهم يقابلون الناس بأدب واحترام، ويبادلونهم الناس ذلك بحب ومودّة، فكان ذلك عندي الفرق بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. احترمت المؤسسية فيهم وقدّرت العلم، فقد خرجوا من مؤسسة القوات المسلحة التي تصنع الرجال، فكيف أن جاءوا هم إليها رجالاً بالاختيار؟
لقد عوّض الله صبرنا جيشاً، وكان لنا أن نشهد ذلك اليوم العظيم الذي عادت فيه المياه لمجراها الطبيعي.
شاهدت دموع الرجال بعد أن عادت لهم كرامتهم المسلوبة.
الصورة بين دخول قوات الدعم السريع للخرطوم وسيطرتها على أجزاءٍ كبيرة من العاصمة بما في ذلك منازل المواطنين في بدايات الحرب، وما بين خروجهم الآن مُنكسرين، تشبه عندي نزع الروح من الكافرين (غرقاً)، وذلك عندما دخلوا لولاية الخرطوم، فقد تم ذلك بشكل دموي غليظ، والشبه هنا في الصعوبة، حتى لا تذهب تفسيراتكم بعيداً، أما خروجهم منها فيشبه نزع الملائكة للروح من المؤمنين فقد خرجوا (نشطاً)، والتشبيه هنا في اليسر والسهولة، وهذا أمرٌ يُحسب للجيش، ولقد كان لنا في ذلك نفحة من نفحات الشهر الكريم رغم المعاناة التي عاشها الناس في الحرب، وفي سورة النازعات تلك الصورة (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6))
وما بين غرقا ونشطا كانت نزاعات الحرب.
وفي التفسير الذي جاء عن تلك الآيات الكريمة أقسم الله بالملائكة التي تجذب أرواح الكفار بشدة وعنف، وأقسم بالملائكة التي تستل أرواح المؤمنين بسهولة ويسر. وقد عشنا هذا النزع عندما دخلوا بشدة وعنف وعشنا من بعد انسلالهم بسهولة ويسر من مناطقنا.
من عذابات تلك الحرب أو من نزاعاتها أننا عشنا أياماً لا نقول تخلو من الماء والكهرباء وخدمة الإنترنت، فهذا عندنا أصبح ترفاً خارج حساباتنا، ولكن نقول عشنا أياماً كانت خالية من الأمن والأمان والحياة، كانت رسائل هاتفك الجوال وسواد عينك عرضةً للتفتيش، وكانت استباحة الأموال والأرواح لا تحتاج لأكثر من أن تنسب للجيش، وقد كانوا عندما يريدون أن يحللوا ذلك ويجيزوه يعتبرونك مُتعاوناً مع الجيش، وهذا أمر إثباته عندهم لا يحتاج لأكثر من الظن، بل والهوى وقد يعجبهم جوالك السيار فيسلبونه منك بتلك الحيلة. وقد يدخلون بيتك ويصادرون ما فيه، لأنّ قريبك كان عسكري قبل عشرين عاماً وهو الآن في عداد الموتى، رغم أنّ الكثير من القيادات الرفيعة في الدعم السريع جاءت من الجيش وتعلّمت فيه، ورغم أنّ الغالبية العُظمى في الدعم السريع في فترة الإنقاذ، بما في ذلك قائدهم، كانوا ينتمون للحزب الحاكم الذي يدينون غيرهم بالانتساب إليه وإن كان ذلك في الماضي.
كان إمام الجامع يمكن أن يحققوا معه إذا قرأ جهراً أو سراً:
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)) آل عمران.
يقولون له ماذا تقصد بهذه الآيات؟ وانت عاوز تصل لي شنو؟
كان الطريق إلى السوق يفقدك أموالك وبضاعتك التي عُـدت بها من السوق، وليس في ذلك غرابة، لأنه يمكن أن تفقد ساعتك وخاتمك وأنت في الطريق إلى الجامع.
وكان يمكن أن تُعتقل لو شاهدوك في سطوح منزلك، مَن يفعلون ذلك يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية وأنت حقك في سطوح منزلك مُصادر، وممتلكات بيتك مسلوبة!!
في آخر أيامهم كنت إذا ذهبت إلى السوق سوف تعود حافياً بسبب مصادرة الحذاء، أنقل لكم الواقع بصورة مُخفّفة.
يمكن أن يتم التحقيق معك وتتعرّض للاعتقال والابتزاز، لأنك مسؤول في لجنة المياه أو في جمعية التكية.. الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال تعرّضوا لأبشع أنواع الاعتقالات والتعذيب والتنكيل، ومات بعضهم في السجون.
قبل أن أخوض بكم في تفاصيل تلك الأيام الصعبة، وأعرف أنّ كثيرين ينتظرون مني ذلك غير ملاحقة البعض، لأن أكتب لهم عن دخول الجيش لشرق النيل وبسط سيطرته التامة عليها وأنا شاهدٌ على الأحداث، أقول إنّ موقفي الثابت هو أنّ عبارة (لا للحرب) هي التي تمثلني وستظل تمثلني ما حييت، (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مرّوا كراما (72)) الفرقان. قناعاتي بالسلام وجدواه لن تتزحزح قيد أنملة، وأنا الآن أكثر قناعةً به، من أي وقت مضى!! لن تفتر قناعاتي أو تهمد وإن أصبح الرصاص هو اللغة الرسمية في البلاد، سوف أكون وأظل من دعاة السلام وإن كلّفني ذلك حياتي وحريتي، ولن آبـه كثيراً وأنا في هذا المقام بما يمكن أن يلحق بي، وأنا أدرك أنّ التيار العام تيار يدعو للحرب والقصاص والقوة، بسبب ما تعرّض له الناس من ضيم وضنك وقتل وسلب من قوات الدعم السريع، أعرف أنّ التيار الذي يدعو للسلام تيارٌ مستضعفٌ ومرفوضٌ، وربما يكون مُلاحقاً من جهات أمنية، أعرف ذلك جيداً، لو كنت أبحث عن مكاسب شخصية لفعلت مثلهم ودعوت للحرب وهو الصوت المسموع الآن والمُحبّب عند السلطة والعامة، سأظل أدعو للسلام وسوف أتجنّب قدر الإمكان خطاب الكراهية، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) الفرقان.
مع ذلك اعترف لكم إني لا أستطيع أن أتجاوز ذلك الخطاب اليوم، وأنا أنقل لكم الواقع بأمانة صحفية بعد مرارات عشناها قرابة العامين، كان فيها العدس أبهى الوجبات لمن استطاع إليه سبيلا، فقد يكون في بعض الخطاب سلوى خاصة لبعض الذين تضرّروا من هذه الحرب وذاقوا منها الويل والعذاب وفقدوا أرواحهم وممتلكاتهم.
أنا من قناعاتي الشخصية أنه كما هو متاح لك اختيار الأصدقاء، فإنّ الشخص أو الدولة أيضاً عليها أن تختار أعداءها، بعض الأشياء تُعرف بأضدادها وأعدائها، والقوات المسلحة أعظم من أن تكون قوات الدعم السريع خصماً لها أو عدوّاً.. الجيش بنظرتنا القومية له، أعظم من ذلك، وفي فلسفة الأشياء لن يكون هناك تكافؤ بين طرفٍ، نجاحه في أن يُدمِّر ويُخرِّب، وطرف آخر نجاحه في أن يبني ويصلح، لا يمكن أن تكون هناك مساواة بين الفوضى والنظام وهذا هو شأن الدعم السريع والجيش، إذ أن الحرب بينهما قائمة على طرف يهدم وطرف يبني، لذلك فإنّ مهمة الجيش تبقى صعبة إن لم تكن مستحيلة، لهذا ندعو للسلام.
قيام دولة أو إدارتها أمرٌ في غاية الصعوبة يحتاج لمقومات ومؤهلات محددة، أما اللا دولة فهو أمرٌ لا يحتاج لأكثر من الفوضى والخراب والدمار!!
إذا كان هناك تنافسٌ بين شخصين مطلوبٌ من أحدهما أن يصيب الهدف، ومطلوبٌ من الآخر أن لا يصيبه وأن يطلق سهامه كيفما يشاءُ، فإنّ التنافس بينهما لن يكون عدلاً، وليس من المنطق أن يكون الفشل في حد ذاته نجاحاً لطرف دون الآخر.
في هذه الحرب، مطلوبٌ من الجيش أن ينجح حتى نحسب له هدفاً، ومطلوبٌ من الدعم السريع أن يفشل وأن نحسب له ذلك من بعد، نجاحاً، هنا يختل ميزان التنافس.
كانوا يتعاملون بمنطق أنا أدمِّر وأخرِّب إذن أنا موجودٌ، أو إذن أنا منتصرٌ.
أنا في أيام الحرب عندما أكتب عن الدعم السريع لا أطلق عليه اسم المليشيات، لأنني إذا أطلقت عليهم هذا الاسم فإنِّي رفعت عنهم بهذا الاسم الحرج فيما يقومون به، وأكون بذلك شرعنت لهم من أفعال القتل والنهب والسلب، خاصةً أنهم كانوا في الأحياء بين المواطنين العُـزّل، بل كانوا في بيوتهم، لذلك خطاب الكراهية هنا يتضرّر منه أولاً المواطن وليس الدعم السريع.
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (34) فصلت.
الذين يكتبون من الخارج لا يعرفون أن أولئك الناس كانوا يشاركوننا في بيوتنا وفي وارد رسائل الهاتف، كنا نحتاج إلى إذن، إذا أردنا أن ندفن ميتاً وكان ذلك لا يتم إلا عن طريقهم، فقد كانت حتى المقابر تحت سيطرتهم وكان الموتى لا ينجون من سلطاتهم.
كانوا يطالبون بالتصاديق والأذونات عند الدخول والخروج من بيتك.. يفعلون ذلك بأصحاب الدار ويحللون لأنفسهم ممتلكات!!
تدخل السوق بإذنهم وتخرج بإذنهم، تدخل بيتك بإذنهم وكذا الحال عند الخروج، حتى الإنترنت تدخل خدمته عن طريقهم.
لم يكن عندهم مشكلة في النهب والسلب والقتل، مشكلتهم كانت مع المواطن.
مشكلة الدعم السريع أنّ كل فرد منهم وإن كان إسناداً، اختزل الحكومة وسلطاتها في شخصه، فهو الذي يحدد لك طريقك، وماذا تأكل وماذا تشرب وماذا تلبس، وهو الذي يحدد لك الصواب من الخطأ، أي فرد منهم هو حكومة لوحده، يحكم وينفذ ويسلب وينهب وكل ذلك حسب نظرته، مُعتقداً أنّ هذا حقٌ كفله له دستور قواته.
لكن مطلوبٌ منّا نحن مع كل هذه العذابات أن نتعامل بهذه الروح (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (37) الشورى.
ما أعظم أن تغفر حتى وانت في حالة غضب.
(وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (154)
الأعراف.
وفي سورة فصلت كما جاء الذكر يقول الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)).
هذه درجات ومكانة قد لا نبلغها، ولكن يجب أن ندعو إليها.
كنت أقول إنّ الغبن والغل أمرٌ يتضرر منه أولاً الشخص الذي يحمل تلك المشاعر، حتى عندما يكون غبنك وغلك على حق.
عدوّك يفعل ما يفعل بك من أجل أن يشحنك بالغضب والغبن والغل، إن نجح في ذلك، انتصر عليك.
إنّه يقصد أن يجعلك مغبوناً.
الشيطان لا ينجح في مخططه إلا عندما يكون ضحيته تحت قبضة الغضب.
لذلك لا تجعل الغبن يسيطر على حياتك، لن تذوق متعة في الحياة مع الغبن. الكراهية شعورٌ يقضي على الأخلاق الحميدة.
لا تجعلوهم ينجحون في أن يشحنوك بتلك المشاعر البغيضة!! (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ) (54)
المؤمنون.
قبل أن أحدثكم عن الحرب ودخول الجيش لشرق النيل وبسط سيطرته عليها، أحدثكم عن جدوى السلام حتى لا أكون مع زمرة الذين يدعون للحرب ولا يرون خياراً غيرها.
أحدثكم بقيم الإسلام وبتعاليم ديننا الحنيف، لا يكفي أن تصلوا صلواتكم الخمس وتصوموا رمضان وأنتم تحملون هذه المشاعر.
إنّنا ندعوكم دعوة إسلامية حميدة، حتى لا تكتفوا بمجرد شعارات من الدين الحنيف.
عندما وقع صلح الحديبية نزلت سورة (الفتح) التي عددت مكاسب ذلك الصلح مع من هم أعداء لله وأعداء للرسول عليه الصلاة والسلام، وقد تحقق من تلك المكاسب ما لم يحققه السيف، كفى أن الله تعالى قال في محكم تنزيله عن هذا الصلح (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) وقال عز وجل عن هذا الانتصار الذي تحقق بالحوار والمفاوضات (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا). مع كل الانتصارات التي تحققت في حروب المسلمين وفي غزواتهم كان الله يصف ذلك النصر الذي تم في صلح الحديبية بالنصر العزيز.
وقيل إنّ أفضل خلق الله وسيد البشرية أجمع لم يسعد كما سعد عندما نزلت عليه سورة الفتح وحتى لا أفتي لكم بما هو أرفع من مقامي أنقلكم إلى هذا القول من موطأ الإمام مالك:
حدثونا عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كان يسيرُ في بعضِ أسفارِهِ وعمرُ بنُ الخطابِ يسيرُ معهُ ليلًا فسألَهُ عمرُ بنُ الخطابِ عن شيٍء فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ ثم سألَهُ فلم يُجِبْهُ ثم سألَهُ فلم يُجِبْهُ فقال عمرُ بنُ الخطابِ ثَكِلَتْ أمُّ عمرَ نَزَرْتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ كلُّ ذلكَ لا يُجيبكَ قال عمرُ فحرَّكْتُ بعيري ثم تقدَّمْتُ أمامَ الناسِ وخشيتُ أن ينزِلَ فيَّ القرآنُ فما نَشَبْتُ أنْ سمعتُ صارخًا يصرُخُ بي فقلتُ لقد خشيتُ أن يكون نزلَ فيَّ قرآنٌ فجئتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ فسلَّمتُ عليهِ فقال لقد أُنْزِلَتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إليَّ ممَّا طَلَعَتْ عليهِ الشمسُ ثم قرأَ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا). قوله (في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية.
ثكلتك أي فقدتك. نزرت أي ألححت عليه، وبالغت في السؤال أو راجعته، أي أتيته بما يكره من سؤالك.
قال ابن عباس وأنس والبراء (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً”.
صلح الحديبية أغلب الصحابة كانوا قد اعترضوا عليه واعتبروه أعطى لكفار قريش أكثر مما يستحقوا، وكانوا يظنون فيه ذلة للمؤمنين، كانت بنود الصلح في ظاهرها في صالح الكفار، أما باطنها وهذا ما كان يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقد كان في صالح المسلمين.. بسبب هذا الصلح جاء نصر الله ودخل الناس في الدين الإسلامي أفواجا.
أعود إلى دخول الجيش لمناطق شرق النيل وأقول إنّ الناس عاشوا فرحة جعلت نساءهم تطلقن الزغاريد، فرحين بما أتاهم الله من فضله من أمن وأمان.
استقبل الناس الجيش بالتكبير والتهليل وعادت لهم الحياة، حتى الكهرباء التي سُلبت أسلاكها ونحاسها وزيتها من المحطات والأعمدة شعروا بها قد عادت وإن لم تعد في حقيقة الواقع.
كان انبعاث الإضاءة من منزلك ولو كان ذلك على سبيل كشافة الموبايل، فإنّ ذلك سبب كافٍ لاقتحام منزلك (وشفشفة) الطاقة ـ ألواحها وبطاريتها وكنت لا تسلم من (الشفشفة) ولو كانت الإضاءة منبعثة من الهاتف الجوال.
دخل الناس للأسواق في طمأنينة وفتحوا بيوتهم من جديد لنمارس فيها عاداتنا المرتبطة بالكرم والضيافة.
عُدنا بحمد الله وفضله نصلي التراويح في المسجد بعد أن كنا نجمع المغرب والعشاء.
عُدنا بحمد الله وفضله نسمع دقات الدعوة للسحور وصوت الضرب على الطبول والجركانات بعد أن كنا لا نسمع غير صوت الرصاص.
لقد كنا نسمع أصوات بعض الذين يُعتقلون في المنازل، فيُضربون ويُعذّبون.
نتمنى أن يعيش السودان في أمن وأمان، وأن يعم السلام ربوع البلاد وتحفظ دماء كل السودانيين في مشارق الأرض ومغاربها.
لا تحسبوا أنّ الله عاجز عن أن يؤلف بين أهل السودان بعد أن فرّقت بينهم الحرب، ان نعم الله على عباده في تلك الإلفة، يقول تعالى في سورة آل عمران:
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (103).
الإلفة بين الأعداء مهما كان درجة العداء نعمة، فلا تجحدوا نعم الله عليكم ولا تعتبروها مستحيلة.
ليس هناك من مستحيلٌ، ادعوا الله أن يجمع بين أهلنا وأن يؤلف بين قلوبنا، والأمر كله من قبل ومن بعد بيد الله:
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(63) الأنفال.
اعلموا أنّ هذا الاختلاف في الألسن والألوان آية من آيات المولى عز وجل، اتنكرون تلك الآيات؟
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (22) الروم.
لا تنسوا أن هناك أخوين أحدهما في الجيش والآخر في الدعم السريع، لا تنظروا إلى الظواهر، إنّ ما يجمع بيننا في البواطن أكبر.
في منطقتنا أعرف بيوتاً كثيرة، كان بعض أفرادها في الجيش وبعضها في الدعم السريع.. هذا أشهده في الأسرة الواحدة.
اللهم اجمعنا على خير وحب وجيش واحد وشعب واحد وحكومة واحدة.
إننا عشنا في هذا الشهر الكريم رحمته، وها نحن بفضله نعيش أيضاً العتق من الدعم السريع ولن تكتمل فرحتنا إلا إذا تحقق ذلك في كل أنحاء السودان، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال السلام، وهنا نحسب لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان أنه ظل بعد كل انتصار يحققه الجيش يدعو إلى حكومة مدنية وديمقراطية وهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن نبني به السودان.
حكومة موازية من قبل الدعم السريع يعني أن كل ثلاثة أشخاص إذا حملوا البندقية يمكن أن يشكلوا حكومة.
حكومة موازية يعني أننا نجعل للتفلتات والنهب والسلب سلطة.
حكومة موازية هي البداية الحقيقية لتفتيت وتمزيق السودان!!
المجتمع الدولي سوف يدعم هذه الخطوة لأنه لا يقصد من ذلك إلا تفتيت السودان، لذلك على المجتمع الداخلي أن يقف أمام هذه الخطوة وأن يرفضها بقوة.
…..
متاريس
إنّنا في موسم عودة عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو.
الحبيب العائد والطير المُهاجر سيعود إلى داره.
والكثير من الحكايات سوف نعود إليها من وقتٍ لآخر.
…..
ترس أخير: بناء الأوطان يُبنى بالإخوان، لا يُبنى بالأعداء.

قد يعجبك أيضا
تعليق 1
  1. Abu Hamdi يقول

    استاذ … كلامك جميل و لكن في فئة انتمت للدعم السريع لا يعرفون الا العنف و لا يعرفون العهود او القوانين او الاخلاق … والقتل عندهم اسهل من شرب الماء … و هم غير منتجين (اي انهم عاطلين) و يعتمدون السلب وسيلة لكسب العيش… و المصيبة الاكبر من يعرفون بالحكامات … اللئي يدفعن الرجال و خاصة الشباب دفعا الى الحروب و السلب و النهب باعتباره ((رجالة)).
    ليكون السودان في امان و قبل ان نتحدث عن الديمقراطية، على الدولة ان تكون قوية و حاسمة ضد اي مظهر من مظاهر الفوضى و التفلت و الاجرام، و وجود قضاء قوي و نزيه ، و محاربة العطالة <> حتى لا يدفع الشباب الى البحث عن المال من اعدء الوطن او من الانشطة الاجرامية. لا معنى للديمقراطية في ظل الخوف و الفقر و العطالة،،، خاصة ان احزابنا لا يعرفون الاتفاق و لا يعرفون البناء و يقضون جل وقتهم في الخصوامات و الخلافات، حتى داخل الحزب الواحد.
    عندما يكون الوطن مهدد في وجوده، فلا احزاب و لا انتخابات و لا تنمية و لا انشطة ثقافية او ابداعية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد