صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

خواطر من الحرب اللعينة (٣)

187

(دكان ود البصير)

أبوعاقله أماسا
* من المرات القليلة التي جلست فيها أمام التلفاز للمتابعة، صادفت أحد مستشاري حميدتي وهم كثر.. كما الهموم على قلوب السودانيين، عددهم كبير وعقولهم فارغة، تحدث عن فرضيات وأشياء عن الحرب ربما أدهشت حتى القادة الميدانيين للدعم السريع إن وجدوا.. فمن فرط ما سمعته وأدهشتني تناقضاته ومغالطاته وأكاذيبه في محادثة واحدة وددت لو كان لدي هاتف الرجل لأقول له: أن الكيزان في ثلاثين عاماً لم يكذبوا كما كذبت أنت في دقائق يا يوسف عزت..!
* كنا عدداً من المواطنين، بعضهم جاء من أحياء ام درمان القديمة ومن جنوب العاصمة حيث الأحياء التي تنتشر فيها قوات الدعم السريع، فنزحوا شمالاً نحو منازل أقربائهم في الثورات والحارات التي ينتشر فيها الجيش كلياً بحثاً عن الأمان وهرباً من بربرية المتمردين وأفعالهم اللا إنسانية، وما من شخص من هؤلاء إلا وقد شهد مئات القصص والمواقف المخزية لهؤلاء البربريون.. من القتل الهمجي للمواطنين والإذلال والتعذيب والتنكيل والإغتصاب والنهب والسرقات، وما من سوداني الآن إلا ويتمنى الموت لهؤلاء الغزاة الفجرة.. فليعطنا عزت إسم سوداني واحد هرب من منطقة يسيطر عليها الجيش ولجأ لجماعته بحثاً عن الأمان.. وذلك قبل أن يتحدث عن الديمقراطية والحكم المدني.!!
* إمام مسجدنا الشيخ إبراهيم صالح، خرج من بيته لإيصال زوجته إلى أهلها في الصالحة، ورغم أنه شخص عادي مثل سائر السودانيين.. لا علاقة له بالحياة السياسية ولا العسكرية إلا أنه عانى الأمرين من معاملتهم.. ففي أول إرتكاز لهم قال له ضابط يافع من الدعم السريع:(يازول إنت بتكون تابع للإستخبارات.. عامل راسك الكبير ده).. والشيخ إبراهيم رجل دين وحافظ لكتاب الله، ومن خريجي معهد جبرة لعلوم القرآن، ومع ذلك لم يسلم من أذاهم ولأنه رجل طيب لم يغضب بل عاد إلينا وهو يضحك من تصرفاتهم ويحكي لنا وكأنه أصبح أكثر يقيناً بأنهم إبتلاء وأنهم لن يكونوا سبباً في الخير للبلاد.. ومن عجبٍ أن معظم جيراننا هنا من غرب السودان، وتحديداً من ذات المناطق التي تذوقت مرارات من أفعال الجنجويد من قبل، وأحد أصدقاءنا قال أن (١٧) شاباً من أسرته ينتمون لهذه القوات وعبرهم كنا نعرف ما يجري هناك، فهم يعرفونهم كما يعرف الإنسان أبناءهم في البيت، ومع ذلك لا أحد يتعاطف معهم مجرد تعاطف ويستنكرون ما يحدث، ولم أجد من بينهم من يدافع عنهم ويتحدث بشيء إلا بالمزيد من الحكايات والمواقف المخزية والأفعال التي لا يقدم عليها بشر عادي وسوي.
* جاري الشيخ حمزه، وهو من أبناء الشلك.. ومسلم متدين وملتزم من مؤذني مسجد الحي ، ويعمل في مجال البناء والتشييد، كان مشرفاً على مبنى في مايو جنوب الحزام واضطر للتحرك أثناء هذه الحرب من أقصى الإسكان إلى الموقع الذي يشرف عليه جوار مستشفى بشاير لينجز إلتزاماً له خاص بالعمل، ومن فجر ذلك اليوم لم يعد إلا بعد مغيب الشمس، فاستمعنا إليه وهو يحكي تفاصيل رحلته من الأدنى إلى الأقصى، وكيف عانى من المعاملة القاسية للجنجويد في طريقه..؟ وكيف أوقفوهم قبالة كوبري المنشية ومواقع أخرى وأجبروهم على الإنبطاح وتفتيشهم واستفزازهم بألفاظ نابية.. وكيف كانوا يقتادون المشتبه فيهم إلى مكان ما أسفل الكوبري قبل أن يسمعوا أصوات الرصاص.. الشيخ حمزه الذي عاش نفس هذه الظروف من قبل وهو يافع بمدينة ملكال يحكي ذلك وهو واثق تماماً أن كل من اقتادوه إلى أسفل الكوبري قاموا بتصفيته..!!
* في حارتنا التي تزدان بالشخوص والمواقف نتجمع كل صباح لنتجاذب أطراف الحديث ونتبادل الأخبار ونتناول الإفطار والشاي تحت الشجر في جماعات كبيرة، ليس من بيننا ثري، وبالتالي فالجود بالموجود.. أحدنا الأخ محمد إدريس وأصله من مدينة بارا، وقد عرف بيننا بلقب محمد قلاب لأنه يقود إحدى قلابات شركة (دار العمارة) للإنشاءات والتي يملكها عضو مجلس المريخ السابق هاشم مطر والد الشهيد محمد مطر.. ومحمد قلاب رجل صاحب سبع صنائع حباه الله بروح مرحة، ولا تراه إلا وهو مشغول بإصلاح شيء، ما أن يدخل إلى المسجد مثلاً وإلا تراه قد انشغل بشيء، إما بمراجعة الميكروفونات أو ساعة المسجد ومواعيد ضبط الأذان والصلاة.. كنا في مجلسنا ذات مرة نستمع إلى الحكاوي والروايات عن مواطننا، فحكى لنا عن منطقة (أم جريجخ) شمال مدينة بارا، وكانت المرة الأولى التي يسمع بها صديقنا عمر منقا فأطلق ضحكة مجلجلة وأصبح يردد الإسم: أم جريجخ؟.. والله إسم عجيب.. فاستمر يطلق على الرجل لقب أم جريجخ حتى خشينا أن يسير معه كلقب جديد..!
* عمر منقا نفسه بلغ من الملل ما لم يبلغه أحد غيره، فهو حضرة صول في شرطة المرور كان يغادر بيته كل يوم فجراً ولا يعود إليه إلا بعد مغيب الشمس، والآن شارفت الحرب على الشهرين ولم يبرح حارتنا، بل لايحب المشي إطلاقاً، وما أن يجلس في مكان حتى يتمدد في تكاسل عجيب، نجتمع الصباح ونجلس للمؤانسة.. ثم نذهب إلى المسجد لصلاة الظهر ونبقى هناك في الغالب حتى صلاة العصر، عمر منقا وشقيقه موسى مسقط رأسهما مدينة الجنينة بغرب دارفور، ربما تحررت لهجة رجل المرور بعض الشيء من مفردات غرب دارفور، ولكن شقيقه موسى مايزال يتحدث بتلك اللهجة بخفة دم وسخرية، ويحشر في وسط الكلام المزح والقفشات ويمزجها بالجدية فيصنع منها شيئاً يبحث عنه الناس قي مثل هذه الظروف، لذلك أصبح دكانه مجمعاً للناس فأطلقنا عليه لقب (دكان ود البصير).. وكانت مناسبة جيدة أن جعلت عمنا الزين يحكي لنا قصة دكان ود البصير الذي انطلقت منه فكرة المسلسل الإذاعي الشهير..!!
* عمنا الزين هو الآخر رجل ثمانيني عركته الحياة والتجارب، لم يترك بقعة في السودان إلا وعمل عمل فيها، بدءً من مشاريع الزراعة بالقلابات وحتى مصنع الجنيد، وعرفت أنه من قام بتوصيل خطوط الكهرباء لمستشفى بابكر المشرف بمدينة الهلالية بشرق الجزيرة وهي مدينة تفصلها من أبي عشر معدية أو بنطون، ولي في هذا المشفى ذكريات طفولة لا تنسى، وذلك في العام ١٩٨٣ عندما داهمني المرض وأنا عائد من المدرسة وسقطت فاقداً للوعي في منتصف الطريق فحملت على ظهر حمار أوصلني إلى البيت، فاحتارت والدتي تغشاها رحمة الله ومغفرته، إذ أن والدي متعه الله بالصحة والعافية كان في جبال النوبة حينها، فحملتني أمي إلى الهلالية حيث يعمل عمي الشريف في حرس مشفى المشرف.. فمكثت في عنبر الأطفال مايقارب الشهر أبت أن تبارح مخيلتي حتى الآن.
* جاري العم الزين وجدته مشرفاً على صهريج الحارة عندما سكنت فيها، وكانت الحارة وقتها شبه خالية إلا بمعدل بيت واحد مسكون أو معمور من كل سبع بيوت، وبعد أن انهى خدمته عاد واستأجر بيتاً بجواري واستمر معنا، وعرفت أنه من قبيلة الهبانية منطقة (كبم) في جنوب دارفور، ولكنه رجل دهري، يتشكل فيه الوطن بمساحاته وحغرافيته وخصاله.. وهو بن بلد أصيل، وإكتشفت بالصدفة حقيقة مذهلة بعد سبع سنوات من العلاقات الطيبة والتعامل المثالي، إكتشفت أنه والد زوجة صديقي حارس مرمى المريخ والهلال الأسبق عبدالرحمن لاميدو.. وهو الآخر صديق لم أنقطع منه طيلة ثلاثون عاماً أو تزيد..!
* إذا كانت هنالك فوائد من هذه الحرب اللعينة فأولها انها قد أعادت صياغة علاقاتنا مع الجيران وعرفتنا ببعضهم أكثر وعمقت العلاقات ورفعتها .. فتبادلنا (صحن الملاح) وملاحة الملح والشطة وتفقدنا بعض وأصبحنا اسرة كبيرة، وكذلك كانت فرصة لمراجعة الكثير من حياتنا التي قضيناها في اللهث اليومي الذي لا ينتهي، فأعدنا اكتشاف أنفسنا وعرفنا بعض ما أخفته عنا الحياة الصاخبة من حقائق…!!
… سنعود ونواصل…

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد