صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

خواطر من الحرب اللعينة (٥)

208

(سفر أدروب وخطة الكردفاني)

أبوعاقله أماسا
* جاري لأكثر من عشر سنوات إسمه محمد سعيد إبراهيم طاهر، من أبناء البني عامر، رجل بسيط ومتدين شأنه في ذلك شأن أهلنا البني عامر، فنحن في مدينتنا التي ولدنا بها ونشأنا وترعرعنا وتعلمنا كنا إذا رأينا تلاميذ خلوة الشيخ الأمين الفكي الأمين (ود تورمنى) نطلق عليهم (البني عامر)، وكنا نظن أن هذا الإسم يطلق لأطفال الخلاوي عامة، وإن كان الأغلبية منهم في بعض الأحيان من غرب السودان القصي، وذلك لأن الأغلبية من طلاب العلم في الخلاوى كانوا من شرق السودان ومن البني عامر تحديداً، وصديقي محمد سعيد بفطرته المحببة من أولئك المتدينون بالفطرة، لذلك كانت جيرتنا معه جميلة ومريحة، والأسرتان لا يفرق بينهما إلا النوم.
* محمد سعيد كان يملك مقهى صغيراً على الطرقة الشرقية في سوق صابرين، ونسبة لطبيعة عمله كان يخرج من بيته قبل صلاة الفجر ويعود من هناك قبل صلاة الظهر، ولكن مع بداية الحرب اللعينة إنضم إلينا في (دكان ود البصير) وشكل بعداً وعمقاً سودانياً بلهجته الشرقاوية وقد إعتاد الناس على أن يطلقوا عليه لقب (أدروب)، وكانت قمة المتعة عندما يشتبك مع صديقنا موسى.. ويحتدم النقاش ويتحدث محمد سعيد بلكنة شرق السودان ويقاطعه موسى بلكنة حدود السودان مع تشاد فيكون مهرجاناً من الضحك والمرح.. وأدروب من نوعية الذين خبروا دروب الحياة ولم يترك بقعة في السودان إلا زارها، ولا قبلة من القبل الأربعة إلا تشاقى فيها، وعندما حكى لنا شيخ حمزه الشلكاوي عن أحداث منطقة (فلوج) بأعالي النيل إكتشفنا أن إدروب كان من الذين هربوا من تحت نيران الأحداث عندما أحرقوا السوق، وهو أيضاً يحكي عن مناطق غرب السودان وعن مدني التي عمل فيها بمخابز مارنجان، والحصاحيصا، وسنار التي استقرت بها أسرته ومايزال والده مقيماً فيها، وبروحه المرحة كان يضفي على مجالسنا نكهة ممتعة بمناكفاته، وكان أول من يفتقده المصليين بالمسجد، وأكثر من يحتفي به الناس عند الحضور.. أحياناً يسرح بعيداً عن المجلس ويصمت لبرهة وعندما يسأله أحدهم عن سبب توهانه يرد بسرعة: داير أمشي فلسطين للجهاد..!!
* أذكر أنهم قرروا اخراجه من طوره في ذات يوم ونحن جلوس تحت شجرة اللبخ أمام بيتي، فقالوا له: إنت حبشي.. لقيت الرقم الوطني وين؟.. وبعدها ندم من حبك المقلب، فقد جاء الرد على طريقة (السوخوي) عندما دس يده في جيبه وأخرج حزمة من البطاقات وبدأ في تمييزها ووضعها على صينية القهوة قائلاً: دي جنسية القماش الزمااان.. الزمن داك إنتوا كلكم ما جيتوا من تشاد… وده الرقم الوطني، ودي البطاقة القومية… ودي شهادة مواطنة من سنار… إنتوا بتعرفوا سنار يا أجانب؟… ودس يديه في جيب الصديري وأخرج حزمة أخرى من الورق وبدأ في فرزها قائلاً دي شهادة عمل في مصنع كنانه.. ودي شهادة ودي إيصالات ضرائب…. والتفت إلى البقية مخاطباً: والله غير الأستاذ ده زول بقدر يتكلم معاي مافي.. كلكم جابتكم المجاعة للخرطوم.. فأضحك الناس كما لم يضحكوا من قبل..!!
* إفتقدنا أدروب بعد أن غادر تحت ضغط زوجته إلى الحصاحيصا ومن هناك سيغادر إلى حلفا حيث أسرة زوجته.. وقد ترك فراغاً عريضاً في دكان ود البصير، بجانب بعض الذين غادروا إلى الولايات الآمنة.
* جاري الآخر عبدالله الكردفاني من المدمنين على متابعة شاشات التلفاز والتقاط الأخبار، ومعروف بتشدده في دعم القوات المسلحة السودانية ونقده اللاذع للدعم السريع، وقد حزن حزناً شديداً عندما هاجمت قوة من الدعم السريع منطقة أم حميرا شرق الأبيض، وبات يتحين الفرص لكي يدعو على حميدتي وقواته.. والكردفاني من (جوامعة) أم روابه ويعمل سائقاً في خطوط مواصلات الثورات ولكن منذ أن بدأت الأحداث إعتكف بالحارة ولم يخرج منها إلا نادراً، ولكنه يفكر أحياناً ويتحدث في طريقة خروجه من الخرطوم إذا دعت الضرورة.. فيقول: أقرب عربية نركبها ونمشي (كي) اتجاه الفتح الجخيس، ونبرا بي هناك ونصدها (كي) علي البحر تاني علي ود حامد والكوداب (قرى نهر النيل).. قلت له: طيب انت ماتمشي دوغري علي أم روابه..!؟
فيقول: ياخي أنا الجابني من هناك العطش البخليني أفارق البحر شنو تاني؟
* الحياة هنا تمضي رتيبة ومملة، ورغم أن المدافع العملاقة تنطلق من هنا لتقصف جنوب الخرطوم، وأصواتها تذكر الناس بوصف نفخة الصور إلا أن الأغلبية من السكان متيقنون ومطمئنون بحكم أنهم في منطقة يتسيدها الجيش كلياً، ولن يفكروا في الخروج والسفر والبحث عن الأمان في مكان آخر.. وعدد غير يسير ربما أعجبهم صمودي المصطنع فقالوا لأهلهم: أستاذ أبوعاقله قاعد ما سافر… نحن ذاتنا قاعدين ما مسافرين… وقد قالوا ذلك وهم لا يعلمون أنني قد عزمت على شيء لم أبح به بعد…!!
… سنعود ونواصل..

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد